أثار العرض الذي قدمه أمين عام الحركة الشعبية باقان أموم بشأن مقايضة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب (بأموال وبترول بأسعار مخفضة).. سخرية وامتعاض الكثيرين سواء في الحكم أو المعارضة، أو حتى عموم المجتمع السوداني؛ ويبدو العرض غريباً ليس في جوهره فحسب، كونه يشتري أرضاً سودانية بإنسانها ومواردها بالمال، باعتبار أن هذه سابقة لم تحدث قط من قبل، ولكن غرابة العرض الأكثر مدعاة للدهشة أن الحركة الشعبية الحاكمة في دولة الجنوب تعتمد ثقافة الصفقات، وهي ثقافة أمريكية لحلحلة قضايا كان من الممكن حلحلتها بالطرق القانونية في حينها. ثقافة الصفقات في الولاياتالمتحدة يتم اللجوء إليها عادة في حالة وجود (عقبات) و(صعوبات) تحول دون الوصول إلى الهدف المطلوب، فالأمريكيون يستخدمون هذه الوسيلة في القضايا الشائكة، والقضايا التي تجد فيها أجهزة التحقيق صعوبة في سبر غورها، أي باختصار هي (أسلوب عجز) بأكثر من كونها أسلوباً للحل. وقد كشف العرض الجنوبي هذا عن جوانب عديدة مؤسفة للغاية في مقدمتها أن إخوتنا في دولة الجنوب (لم يعرفوا بعد قيمة الأرض) وأنها لا تقدر بثمن!.. وليس أدلّ على ذلك بيعهم لحوالي 9%من أرض الجنوب لشركات أميركية وأوروبية وإسرائيلية بأثمان بخسة حتى ولو كانت أثماناً مجزية، فهي ليست مجزية وطنياً بحال من الأحوال. الأمر الثاني، أن أموم كشف عن (جهل فاضح) بالطبيعة السودانية مع أنه (كان سودانياً في يوم ما)..! فالتخلي عن الأرض مقابل ثمن، أمر غير متعارف عليه لدى السودانيين، ويعلم القاصي والدان أن قضية إقامة السدود المائية في شمال السودان رغم التعويضات والخيارات التي منحت للمتأثرين، ورغم إدراك هؤلاء المتأثرين لطبيعة مشروعات السدود وقيمتها الاقتصادية والوطنية، إلا أنهم لم يتخلوا عن أرضهم بسهولة واستدعى الأمر جهوداً ومعالجات، وربما لا زال بعضهم يعاني من جراح تخليه عن أرضه مع أنها أرض سودانية، ولا تزال سودانية وستظل سودانية.. تُرى هل وضعَ أموم (كسوداني سابق).. هذه الحقيقة في اعتباره قبل أن يقدم هذا العرض؟ الأمر الثالث أن اللجوء (للشراء) معناه ببساطة أن طالب الشراء ليس صاحب حق!.. لأن التاريخ الإنساني لم يعرف مطلقاً صاحب حق يعرض ثمناً لشراء شيء يدّعي أنه صاحبه!.. وغنيّ عن القول في هذه النقطة بالذات.. أن أموم كمن ينتقد قبول حركته لمبدأ الاستفتاء كحل للنزاع في أبيي، ويعترِف- ضمناً- بأن الاستفتاء في أبيي لم يكن لصالح حركته، وأن قبول المفاوض الجنوبي وقتها- وهو زعيمه الراحل قرنق- بهذا الاستفتاء كان خطأ و(دقسة) من جانبه؛ بمعنى أن التلميذ أموم ينتقد أستاذه قرنق متجاوزاً فرضية الوفاء وحفظ الجميل المفترضة في التلميذ تجاه أستاذه! الأمر الثالث والأخير أن العرض الذي لم تعِره الحكومة اهتماماً يذكر، يحمل في طياته ملامح خيبة وافتقاد خيارات، إذ ليس من المتوقع أن يكون في جعبة الحركة الشعبية خياراً آخر سلمياً، فهي رفضت الحل القانوني الرئيسي الوارد في اتفاقية السلام الشاملة وهو الاستفتاء، ورفضت مقترح جعل المنطقة تكاملية بين البلدين، وها هي تقدم عرضاً بالشراء فماذا تركت لنفسها من خيارات؟ أما إذا كان الخيار حرباً.. فإن دولة الجنوب كما يعرف أكثر الناس بساطة في الفهم والإدراك.. تعيش حالياً حرباً أهلية تغنيها من أن تفكر في شن حرب للإستيلاء على منطقة بها عدد من القوات الأثيوبية القادمة لحفظ السلام، وهناك استحالة في الاستيلاء عليها وضمّها بالقوة. لم يتسبب أحد في وضع الحركة الشعبية في هذه (الزنقة) سوى الحركة الشعبية نفسها، ومن ثم فهي وحدها التي يتعين عليها البحث عن مخرج!