تحليل سياسي رئيسي مرة أخري ولمّا يمضي على عرضه السابق شراء منطقة أبيي بأموال وبترول سوي أسابيع، أعاد أمين عام الحركة الشعبية الحاكمة فى جنوب السودان ذات حديثه المتعلق بشراء وحلحلة المشاكل القائمة بين دولته ودولة السودان بالمال. ففي أحدث تصريح له تناقلته وسائل الإعلام الأسبوع الماضي قال أمين عام الحركة باقان أموم (سندفع أى ثمن لتسوية القضايا العالقة) وأضاف أموم (جوبا مستعدة لتقديم مليارات الدولارات لتسوية هذه القضايا) . تصريح أموم جاء فى سياق البدء بمناقشة كيفية وضع خطة لحلحلة القضايا التى لم يتسن حسمها بعد بين البلدين والمتمثلة كما هو معروف فى مثلث أبيي الحدودي المتنازع عليه وكيفية معالجة قضية تصدير بترول دولة الجنوب، والديون والحدود المشتركة وقضايا أخري لا تزال موضع خلاف. ولعل مما بات يلفت النظر فى تصريحات أموم الدائرة باستمرار حول (شراء) ما تطلبه دولته بالمال أن أموم يبدو مثل الثري الذي يقيِّم كل شيء ويقدره بالمال ويساوره اعتقاد -إستناداً الى ثورته- ان كل شيء يمكن شراءه بالمال ومن ثم لا حاجة للتفاوض السياسي والأخذ والردّ وفق الحجج والمنطق. و يعتبر هذا الامر فى حد ذاته - للأسف الشديد - بمثابة جهل بطبيعة الطرف الذى تفاوضه حكومة الجنوب، وطبيعة الأمور المتفاوض عليها؛ فالطرف الذى تفاوضه حكومة جنوب السودان وهو السودان، حتى وإن بدا فى نظر أموم فى حاجة الى مال فان من المستحيل تماماً ان يعتمد نهج (التفاوض بمنطق البيع والشراء) ولو كان هذا ديدناً لديه فان أفضل وقت كان بإمكانه ان يفاوض فيه بمنطق البيع والشراء هو الوقت الذى سبق إجراء الاستفتاء، ولا نغالي ان قلنا هنا أنه وحتى بمنطق السياسة والأخذ والرد والمقابل فان السودان منح الحركة الشعبية – ولا نقول مواطني جنوب السودان- حق تقرير المصير وإجراء الاستفتاء مجاناً دون أى ثمن، وكان كل ما يأمله هو ان يدرك قادة الحركة الشعبية هناك ان المقابل الطبيعي فى هذه الحالة هو ان يكف الجنوب على الأقل أذاه المتمثل فى دعم الحركات المسلحة ضد السودان. كان هذا الثمن – إذا اعتبرناه ثمناً – كافياً للسودان كمعادل موضوعي لحق تقرير المصير والسلاسة التى أجري بها السودان الاستفتاء ومسارعته الاعتراف بنتيجته ومباركة النتيجة والدولة الوليدة. من الغريب حقاً ان يتجاوز أموم – هذا المنطق البسيط – ويجتذبه منطق مقايضة الارض والحدود وقضايا أمنية أخري مهمة بالمال! من جانب آخر فانه وحتى لو فرضنا تسليمنا بمنطق أموم (الشرائي) هذا، فان السؤال المهم فى هذا الصدد هو من أين لدولة جنوب السودان (بمليارات الدولارات) هذه التي عرضها أموم بهذه البساطة ثمناً لحلحلة قضاياه؟ ولماذا يعيش جنوب السودان ومواطنيه أسوأ حالاته حالياً طالما أن الجنوب يملك كل هذا القدر من المليارات ؟ فالحكمة تقول ان فاقد الشيء لا يعطيه، اللهم إلا ان كانت الحركة الشعبية تلعب دور (الوكيل) لشراء أبيي وأراضي حدودية أخري لصالح جهة دولية معينة لا تري غضاضة فى دفع (مليارات الدولارات) لتحوز هذه الارض، وحتى فى هذه الحالة فان اى مراقب يتوقع أسلوباً أكثر ذكاءاً من جانب الحركة الشعبية وليس هذا الأسلوب المتبرِّج سياسياً الذى يثير حفيظة الطرف الآخر ويجعله يتساءل عن سر هذه العروض الشرائية المتواصلة؟ من جانب ثالث فان اى مراقب من حقه ان يتساءل عن سبب عروض الشراء إذا كان لدولة الجنوب (حق) فيما تود شرائه! إذ لا أحد كما هو معروف بداهة يشتري شيئاً يملكه! أغلب الظن أن أموم وقادة الحركة فى عجلة من أمرهم إزاء هذه القضايا التى ظلوا يماطلون بشأنها قبل الانفصال وأصبحت بالنسبة لهم الآن حجر عثرة أمام مسيرتهم السياسية فى الدولة الوليدة. وأغلب الظن أيضاً ان أمل قادة الحركة فى حصولهم على ما يريدونه من خلال تفاوض مدعوم بالحجج والأسانيد قد بدأ بالتلاشي، وبالمقابل فان خياراتهم السياسية والعسكرية هى الاخري قد تقلصت وضاقت وهذا فيما يبدو لنا مردّه الى رفضهم – منذ عامين – إجراء استفتاء أبيي دون مسوغات قانونية وجيهة، ورفضهم العديد من المقترحات المعقولة من جعل المنطقة منطقة تكامل لصالح شعبيّ البلدين. ومن الطبيعي ان من يرفض الوسائل الطبيعية لحل المشاكل والنزاعات، يعوزه المنطق السياسي السليم ان يلجأ الى منطق الشراء وأن تزداد خيبته حسرته حين يصطدم برفض الطرف الآخر للبيع!