ü جاء في الأخبار أن الآلاف من قبيلة المناصير قد بدأوا الاعتصام ونصبوا خيامهم أمام مقر الحكومة بولاية نهر النيل، محتجين على تأخير اتفاق سابق توصلت إليه الحكومة مع ممثليهم. اتفاق يقضي بتوطين 9 آلاف أسرة حول بحيرة سد مروي، بعد أن رفض 75 في المائة من سكان المنطقة الهجرة للقرى الجديدة بالمكابراب. ü يقول الخبر -بحسب «الأحداث»، الاثنين 21 نوفمبر- إن نحو ثلاثة آلاف من المناصير تجولوا بين الدامر وعطبرة واستقروا أخيراً قُبالة مقر حكومة الفريق الهادي عبد الله، والي الولاية، مطالبين بإقالة وزير الكهرباء رئيس هيئة السدود أسامة عبد الله، ورفعوا هتاف «الشعب يريد إحقاق الحقوق»، وكشف المتحدث باسمهم أن المهجَّرين رفعوا مذكرة للوالي، لكن الوالي وعدم بحل (1%) فقط من مطالبهم وأحالهم لبحث بقية مطالبهم مع الحكومة المركزية، متعللاً بعدم استطاعته تلبية تلك المطالب، وأكد المتحدث عزم المُهجًّرين نقل الاعتصام بعد يومين إلى الخرطوم حال تلكؤ الولاية في حسم مطالبهم بالتوطين العاجل لنحو 9 آلاف من أسرهم حول بحيرة السد. ü أسر المناصير المشردة التي تشكل سكان المنطقة المنزوعة، تعيش بحسب الناطق باسم القبيلة تحت سقوف «الرواكيب» بعد أن غمرت مياه السد أراضيهم ومنازلهم، وقال إنهم سيشددون وسائل مقاومتهم للقرار الجمهوري رقم (206) لعام 2006، ذلك القرار الذي يمنح هيئة السدود الحق في نزع الأراضي بالشمالية ونهر النيل، وإن الاعتصام سيستمر بشكل مفتوح إلى أن يتمكنوا من نيل مطالبهم واسترداد حقوقهم. ü القصة الخبرية أعلاه تحكي الماضي وتصور الحاضر وتؤشر للمستقبل الذي ينتظر البلاد. ماضٍ يقول إن الدولة عندما قررت قيام السد -سد مروي أو الحامداب- لم تصل إلى اتفاق يرضي أهل الأرض الذين سيقام بين ظهرانيهم، وحاضر يصور حالة المعاناة والإهمال الرسمي لمطالبهم بعد أن أنجز المشروع، ومستقبل مظلم دفعهم لأن «يتحزموا» ويقدموا التضحيات في سبيل نيل حقوقهم المغتصبة باسم التنمية، حقهم في أرضهم المتوارثة عبر القرون وفي بيوتهم التي فارقوها من غير رجعة. ü صمت المناصير وصبروا طويلاً حتى كدنا، نحن الأبعدين، أن ننسى أن لهم قضية، وأن تلك القضية لا تزال مفتوحة على مصارعها. كنا نعتقد أن «خيار البحيرة» أو الخيار المحلي الذي صارعوا من أجله على مدى سنوات، هي سنوات بناء السد، قد أنجز وأن القوم قد استقروا في منازلهم حول البحيرة واستأنفوا حياتهم الطبيعية وبدأوا دورة الإنتاج، الى أن فوجيء الجميع بالقوم يتجمعون ويتظاهرون ويعتصمون من أجل إحقاق الحقوق، ويفاجأوا بتنصل الوالي عن مسؤوليته تجاه مواطنين من رعيته طالهم الظلم، ويعدهم -بحسب القصة الخبرية- بحل «واحد في المائة» من جملة مطالبهم، ليدفع بهم نحوالمركز في الخرطوم ليحلوا قضيتهم معه، عوضاً أن يتقدمهم حاملاً مطالبهم ومنافحاً عن حقوقهم المهدورة!! ü حكاية سد مروي، هي تكرار لقصص كثيرة مشابهة، تتمحور كلها حول «علاقة التنمية بالإنسان»، وإذا كان تاريخنا المعاصر يحفظ بعض النماذج لمثل تلك العلاقة الشائهة لمشروعات التنمية التي تستهدف تعظيم الفائدة للدولة على حساب الإنسان وتاريخه وعلاقته الوجدانية بأرضه وذكرياته، كما حدث في قصة «حلفا القديمة» في أقصى شمال البلاد، فإن شيئاً من هذا ظل يحدث ويتكرر في العديد من البلدان والقارات، التي شهدت هجمة الاستعمار الجديد عبر الشركات والكارتيلات الكبرى للمقاولات والتنقيب والاستثمارات الكبرى التي تقتلع الإنسان من موطنه وتغمر أرضه بالمياه أو بالنفط الخام المُتفلت الملوث للبيئة والمخرب للأرض والفاتك بالإنسان والحيوان. وكتاب جون بيركنز «قصة قرصان.. الاغتيال الاقتصادي للأمم» يقدم بإسهاب عشرات القصص والحكايات المأساوية التي تروي علاقة مشروعات التنمية الاقتصادية الجائرة على حساب الناس في أمريكا اللاتينية وأماكن عديدة من العالم اختارت فيها الدول والشركات والمؤسسات الدولية المرتبطة بأصحاب القرار التضحية بالبشر من أجل مطامعها وطموحاتها الاقتصادية. ü حكاية المناصير مع سد مروي، هي «عينة اختبار»، مثلما هو الحال مع أهالي بحر أبيض ومشروع سكر النيل الأبيض، عينة اختبار، يمكن أن يقيس عليها السودانيون في كل مكان علاقاتهم مع مشروعات الدولة وخططها الاقتصادية التي تمس أرضهم ومضاربهم. وبما أن الدولة فشلت حتى الآن في الوصول إلى تفاهم حقيقي يرضي المطالب المحدودة والقليلة التي تقنع المواطن المنصوري الفقير، فإنه لا ينتظر من هذه الدولة أن تراعي موازين الحق والعدل في التعامل مع الآخرين، وبالتالي فإن ما يحدث للمناصير الذين يهتفون اليوم «الشعب يريد إحقاق الحقوق» يمكن أن يتكرر في أكثر من جهة أو ولاية من ولايات البلاد، فمصادر الشكوى والتذمر تتعدد وتتنوع مع تراجع الأحوال المعيشية والغلاء وتعثر الخدمات الضرورية في كل مكان، مما يضاعف حالة الاحتقان ويفتح الأبواب لهوج الرياح والعواصف. ü المطلوب تحرك عاجل وفعال من جانب الدولة في أعلى مراقيها ينصف المناصير ويعيد لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، حقهم في السكن في منازل ثابتة عوضاً عن الرواكيب وحقهم في التعويض العادل والمنصف وفق خيارهم المحلي الذي حصلوا عليه بعد معارك لم تخل من تضحيات، حتى يشعروا بأن السد الذي شيد بين ظهرانيهم جاءهم بالخير والنعمة ولا يتحول في نظرهم إلى شر ونقمة!