هذا العنوان مستعار من مقال قديم لم ينشر .. أراد كاتبه المحبوب عبد السلام أن يدفع به عن شيخه، غائلة هجوم شنه غازي.. لكن يد الرقيب التي انحازت إلى شوكة الدولة، حينها حالت دون وصوله لقاريء نهم ينفذ إلى ما وراء النص، مستعيناً على ذلك بخيال جامح وقدرة فائقة على حل الأحرف المتقاطعة.. ولأن هذا السياق مغاير لأجواء المفاصلة ومناخ الإحتدام، وأقرب إلى لحظات التداعي العاصفة بوحدة الوجود والشهود« نكون أو لا نكون».. فإن استدعاء ما يقوله غازي صلاح الدين هذه الأيام يتجاوز دائرة الإستئناس برأي رشيد إلى الإحاطة العميقة بدواعي الأزمة المزمنة وتداعياتها المحتملة.. ومنه ما أوردته صحف الثلاثاء الماضي حول زيادة المحروقات والتدابير البديلة.. حيث دافع رئيس كتلة الوطني البرلمانية بشدة على موقف النواب الرافض لرفع الدعم عن الوقود، مؤكداً على أن موقفهم هذا لا يعبر عن مخاوف مبررة من إرتفاع وتيرة السخط والتذمر الشعبي، جراء الإرتفاع الجنوني للأسعار، بقدر ما هو نابع من إحساس عميق بمدى الضائقة المعيشية الآخذة في الإتساع.. وغازي المترعرع في أكناف أسرة آهلة بالتأهيل والتميز، والمنتمي إلى الطبقة الوسطى، حيث نشأ في مشروع الجزيرة مع والده، الذي كان من الأجيال التي قامت على أكتافها سودنة الوظائف في الخمسينيات، يدرك جيداً إحداثيات الشارع السوداني، وحدود صبره وطاقات احتماله، مثلما يدرك حجم النضوب الذي يضرب خيال المنظومة، بيد أنه وصف المعالجات العاجلة التي إجترحتها وزارة المالية تحت عنوان البرنامج الثلاثي للإصلاح الإقتصادي بالألغاز.. ولغازي الموصوف بالتجرد والعمق مقال نشره بُعيد شهر من نجاح الثورة المصرية بعنوان ((مصر الديموقراطية الحرة.. هي مصر الأقوى)) استشهد في مطلعه بمقولة إنشتاين «الخيال أهم من المعرفة» لأنه هو الذي يهدينا لأنجع الطرائق للإستفادة من معارفنا، وتأسيساً على ذلك خلص للإستشهاد بمقولة لا تقل عنها إيحاءً، مفادها أن جوهر الأخطاء البشرية هي في مجملها أخطاء تقصيرية، ناتجة عن الإخفاق في تبين البدائل والخيارات المتاحة، فهي ببساطة مشكلة خيال.. واختتمه بمقولة ضاربة في العمق "القيادة إستثمار في الأملليردف "وهي كذلك إستثمار في الخيال النافعويبدو مما يتراءى في آفاق التدابير التي صيغت على عجل، على شاكلة تخفيض مرتبات الدستوريين، أو ما اقترحه وزير المالية على هامش مناقشة موازنة العام 2012م.. حيث أجمل مقترحه في ثلاثة بدائل، تشمل تخفيض الدعم المقدم للأسر الفقيرة- أو تخفيض الوظائف الممنوحة للخريجين- أو تخفيض الصرف على المؤتمرات الذي ألمح إلى صعوبته- أو ما ذهب إليه د. غازي نفسه بضرورة التركيز على خفض الصرف العام والإصلاح الهيكلي، بالإضافة لإحكام وزارة المالية ولايتها على المال العام، وصرفه وفق معايير العدالة والقسط، أو ما طفق يردده المحللون من ضرورة وضع حد للترهل الحكومي، وضبط أولويات الصرف، وتحديث أنظمة تحصيل الإيرادات العامة، وزيادة الموارد، وإجتذاب إستثمارات الصناديق السيادية، والحد من غلواء الفقر والعوز.. يبدو من تلك المعالجات المصاغة بلغة الإنشاء على تحديات مكتوبة بلغة الخبر.. أن الأزمة لن تراوح مكانها إلا إلى الأسوأ، أو على أقل تقدير إستبقاء الأمر على ما هو عليه، حتى صار حالنا أشبه بما قاله الشاعر يقضي على المرء في أيام محنته، حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنوأخشى تبعاً لذلك أن تكون مبادرة إسقاط البنزين التي قادها النواب، هي مناورة تستثمر في عامل الوقت أكثر من إستثمارها في إيجاد بديل ناجع لحل الأزمة واستئصال شأفتها، ومع أن لغازي الموسوم بحدة الذكاء، وحدة الطبع، مقدرة في المحاججة، والحوار، واستيعاب الآخر، إلا أن أقصى ما بات ينتظر منه هو تصريح أو مقال يصدح فيه بالحق، لكن يبدو أنه آثر بتحركاته الأخيرة التي آتت ثمارها أن يخيب ظن الناس وأنا منهم.. ونخشى أن تسقط قيادتنا في محاص الأمل، بمثلما سقطت في محاص الخيال.. حينها لن نجد عزاءنا في أطلال تجربة أرستها جماجم الأبطال وأشلاء الشهداء.