أطرح رؤيتى المهنية المتواضعة في صيغة سؤال مفتوح حول فعاليات الملتقى الاقتصادي الذى نظمته وزارة المالية والاقتصاد الوطنى بقاعة الصداقة خلال اليومين 26 و27 من نوفمبرالمنصرم. وبعد مراجعات هادئة مع النفس رأيت أن تكون الإجابة مبسطة من خلال تفكيك ممرحل لصيغة السؤال عنوان المقال، تفادياً للخوض في وحل المصطلحات الاقتصادية المعقدة المنفرة .. فكل تفاصيل حياة الإنسان السودانى في رحم الممكن تلقحها لتولد أفكار وسياسات وزارة المالية والاقتصاد الوطنى من خلال حزمة من خطط العمل والبرامج الإحصائية التى يطلق عليها إصطلاحا موازنة العام بوصفها تفصيلاً منهجياً لخطة عشرية أو خمسية تهضم في احشائها برامج عمل قد تكون عشرية أو خمسية أو ثلاثية في حدها الادنى، ويتم إعدادها بواسطة كتائب من الخبراء والاختصاصيين والمهنيين يتحركون جيئةً وذهاباً بين تلافيف الوزارة لطهى الوجبة التى يعول عليها في إطعام الناس وتأمين خوفهم خلال رحلة الحياة في جزء من كسر الزمن المتعجل في الرحيل.. ولأجل ذلك يخلف الإبطاء في تنفيذ تفاصيل الخطط والبرامج كماً هائلاً من التراكمات تسد أفق المستقبل وتثقل كاهل الحاضر بأمانى التنمية وسراب الوعود.. وبالضبط هذه هى نقطة ضعف مؤسسات صناعة التنمية في البلدان النامية «مرض غياب المؤسسية» والسودان جزء منها. ودعونا نعود إلى واقع الحالة السودانية في التنمية بمفهومها الشامل التى باتت عصية على أية معالجات منهجية منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضى وحتى الآن «مرحلة التنمية الهتافية» رغم ضخامة موارد الوطن التى لم يفلح القادة في توظيفها بمنهجية راشدة لخلق التنمية المستدامة وفرض برمجة قوية لمعالجة سلبيات الواقع الاقتصادي المتدهور في محاور محسوسة نعيشها في تضخم جامح نتج عنه تدهورمستمر في سعر صرف العملة الوطنية لخلل هيكلى في ميزان المدفوعات «كلفة الواردات أضعاف عائد الصادرات».. وتدهورت عافية الوطن بتفشى البطالة بنسبة «41%» مقابل زيادة مخيفة في عرض سوق العمل.. ونسمع همساً بات جهراً يتحدث عن غياب العدالة الاجتماعية وارتفاع معدلات الفقر التى تجاوزت نسبة 65% من الكتلة السكانية.. وفى خضم التعاطى النهم مع السياسة بتوسيع مواعين الفيدرالية وترميم التصدعات الأمنية الغائرة تراجع حجم الاعتمادات المالية المخصصة للمشروعات الإنتاجية الزراعية «تدهور مشروع الجزيرة مثالا» والصناعية «تصفية مشروعات النسيج مثالاً» والخدمية «ضعف اعتمادات التعليم والبحث العلمى والصحة»، وبات في الحكم المؤكد ارتخاء قبضة السلطة من قاعدة المحليات مروراً بالولايات التى تستجدى الدعم وانتهاءً بالمستوى الاتحادى مع التدنى المستمر لحجم التعاملات الاقتصادية للسودان مع العالم الخارجى رغم وجود كم هائل لتوصيات ومخرجات العديد من ورش العمل والملتقيات الاقتصادية والمالية «46 ملتقى لعام 2011م و39 ملتقى لعام 2012م حتى الآن»، ويضاف نمو الفساد والتساهل معه إلى علل الاقتصاد. وأعتقد أن الداء يكمن في عدم القدرة المؤسسية على تطبيق مخرجات الملتقيات أو لعدم تطبيقها كما ينبغى، وبالتالى حرمان الدولة من توليد طاقة دفع ذاتى لنمو الاقتصاد متلازمة ومتسقة مع أداء غير متطور للسلطة في كل مستوياتها الثلاثة ممثلاً في غياب الخدمات المجانية أو المدعومة عن المواطن. وبقليل من التأنى في التدابير والتنسيق مع المحليات رغم كثرتها ومع الولايات رغم جفوتها قبل وقت كاف.. كان يمكن لوزارة المالية والاقتصاد الوطنى أن تجعل من الملتقى الاقتصادي فرصة لنشر ثقافتها وحشد مثالى للبناء الاقتصادي الهرمى وفق موجبات النظرية العالمية للتنمية التى تمجد وتقر سلامة تصميم الخطط والبرامج من القاعدة للقمة وليس العكس، وحينها ستكون توصيات الملتقى الاقتصادي التى تم تسليمها لرئاسة الجمهورية عبر السيد النائب الاول بمثابة توليفة مصفية لرؤى علمية واقعية تساعد على تصميم معالجات فاعلة لتجاوز المشكلات الاقتصادية والمالية فى البلاد ومنها جذب الاستثمارات الخارجية والمحلية التى أضحت عصية على الترويض لأسباب معلومة ومحسوسة يتطلب تخطى عتبتها الأولى تصميم قانون مرن يستوعب مقتضيات الحراك العالمى للسياحة والاستثمار والتمويل وسلاسة تحويل المدخرات الربحية من العائدات.. ورغم انفراد وزارة المالية والاقتصاد الوطنى باعداد وإخراج الملتقى الاقتصادى لأسباب قد تتعلق بكسب الوقت لاستثمار مخرجاته في توفير وجبة معلوماتية دسمة لإعداد موازنة العام المالى 2013م، إلا أنه مشفوع لها بحجم المشاركة العددية الكبيرة وبمداولات العصف الذهنى الذى من ثمراته توصيات مجموعة عمل القطاع الحقيقى «الزراعى بشقيه والصناعى والخدمى» وتوصيات القطاع الخارجى «القروض والصادرات» مضافة إليها توصيات مجموعة عمل القطاع النقدى والمصرفى «التضخم والاستقرارالمعيشى والتمويل» وكلها مخرجات جوهرية تمس حياة المواطن وتؤمن سلامة الوطن وتحصنه ضد الوهن والضعف والتلاشى وتعزز مبدأ سيادة الدولة. وتطبيقاً لمبدأ الاستقرار المالى كواحدة من درر توصيات الملتقى، لا بد من التأكيد على دعم الخدمات الاساسية التى تقدمها الدولة بدلاً من زيادة الأجور التى تخص شريحة العاملين فقط دون غيرهم. ومن الأهمية تغيير سلوك الدولة غير الرشيد بتبديد الموارد والإنفاق على المظاهر والشكليات «كالعربات والمبانى الفاخرة والمشتروات دون ضوابط» أكثر من الاهتمام بجوهر الخدمات التى تقدمها للناس. فمن الواجب والمنطقى هيكلة الإنفاق الحكومى بصورة علمية ومهنية لا مجال فيها لخداع الذات أو الربت على الكتوف لخفض عجز الموازنة «6.4 مليار للعام 2012».. فلتكن البداية بالإصلاح الضريبى «أفقياً ورأسياً» تصاحبه مراجعة واقعية عميقة لكلفة تشغيل مؤسسات الحكم ومدى الحاجة إليها «محلية وولائية واتحادية» وإعادة النظر في مخصصات الدستوريين «مالية وعينية وسفر» وإلزام النواب التشريعيين بمبدأ التكليف لا التشريف «قوميين وولائيين ومحليين»، والتدقيق في اعتمادات الأجهزة الامنية والقوات النظامية على ضوء المهام وخطط الاداء دون ترك الحبل على الغارب في التعامل مع موارد الدولة. وفى ذات السياق من المهم جداً مراجعة احتياطيات البنوك لمواءمتها مع حجم المخاطر بالبنوك كظاهرة غسيل الاموال ولضمان توفير المال المطلوب لدعم التمويل الأصغر في مناطق الانتاج التقليدى. ومن الأهمية القصوى تفعيل دور الإعلام الاقتصادي للمساهمة في ترشيد النمط الاستهلاكى على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وتشجيع النمط الإنتاجى ومحاربة «البوبار» الذى بات السمة الغالبة التى تكسو حراك المجتمع السودانى في الافراح والأتراح في زمن تدنت فيه دخول معظم السودانيين إلى دون خط الفقر الذى تحدده معايير البنك الدولى بواقع «ثلاثة» دولارات كحد أدنى لدخل الفرد في اليوم للوفاء بمتطلبات الغذاء وبقية ملحقات الحياة الضرورية اليومية والتى قطعاً ليس من بينها الكماليات كدخول المسرح أو تبادل الهدايا في المناسبات السعيدة، وتلك ظواهر باتت من ثروة الماضى بالنسبة للسواد الأعظم من الناس في بلد بات اهله يتندرون من مقولة إنه سلة غذاء العالم. ومن باب ذكر محاسن الرجال في إنجاح فعاليات هذا الملتقى الاقتصادي، أسجل صوت شكر لكل طاقم وزارة المالية والاقتصاد الوطنى بقيادة الوزير علي محمود الذى اختار كلماته بعناية في الترحيب بالضيوف والتعريف بالمشكل الاقتصادى السودانى.. وفى ذات الاتجاه أحيي الأخ غازى حسين موظف الإعلام بوزارة المالية على حيويته ونشاطه الدائم وحرصه الشديد على نشر مظلة الدعوة على أكبر عدد من أهل الشأن والاختصاص، فبفضل علاقاته المهنية المتجذرة مع المؤسسات الإعلامية نجح في توصيل الدعوة للقاصى والدانى.. فلولا غازى لغاب عن المؤتمر نصف الحضور البالغ عددهم «1561» شخصاً، وكنت حريصاً على ذكر غازى حسين لأثمن دوره في ربط وزارة المالية بكثير من قيادات الماضى البعيد والقريب، ولهذه المبادرة قيمتها في اتاحة الفرصة للجيل الحالى بالوزارة من حصد ثمرة غرس الماضى وتوظيفها لإنعاش ذاكرة الوزارة بسيرة الرواد السابقين الذين طمروا تحت رمال النسيان من أمثال خفيف الظل محمد حسن عبدو ومنجم المعلومات بابكر عبد الله بابكر ومرجعية التشريع الضريبى سعد يحيى وآخرين كثر لا يتسع المجال لذكرهم. وفى النهاية سيظل العشم معقوداً على مخاض الملتقى لينجب حلولاً عملية تصنع الحكم الرشيد وتحصن الوطن ضد الانكسار بمصل التنمية المستدامة لتلافي الآثار الكارثية للفقر التى أفرزت تغييرات كبيرة في البنية الأخلاقية والسلوكية للمجتمع التى خلفت بدورها أمراضاً كالرشوة والفساد والمحسوبية، وهى متلازمات تصنع الانهيار الاقتصادى والعياذ بالله!! ودمتم.