أغفلت عامداً.. بل حجبت حروفي هذه لتصافح عيون أحبتي.. قرائي.. أبناء وبنات شعبي حتى لا تمشي حزينة.. متوشحة بالسواد.. ملتحفة بالرماد.. في ليلة.. أو صباح ذاك اليوم المجيد.. يوم عرس السودان.. والصدى يأتي مجلجلاً.. هادراً.. صادحاً.. مغنياً.. في شدو رهيب.. اليوم نرفع راية استقلالنا.. نعم فعلت هذا عامداً ومترسماً.. كلمات المحجوب..عندما خاطب.. الإمام الصادق المهدي..وبعد أن أزاحه من ذاك الكرسي الوثير.. المثير والخطير.. والذي صعد إليه وهو مدجج بالأسماء الرهيبة.. وتمتليء حقيبته.. بإرث مهدوي.. شاسع.. وهائل.. قال له المحجوب.. أنا لا أود أن أفسد عليك بهجة يومك.. وأنا أحبتي.. لم أكتب حرفاً عن الاستقلال في يوم الاستقلال الأحد الماضي.. كنت أشفق عليكم من تلاوة وكتابة مقطوعة مجللة بالحزن والأسى.. تفيض دموعاً.. أكثر من دموع الخاسرين عشقهم.. أكثر نواحاً من عاشق يرى الحبيبة.. تتألق.. وتتأنق.. يلفها السعد وتجتاحها السعادة.. في ليلة عرسها.. لآخر محظوظ.. أغفلت.. وتعمدت الاحتجاب.. ونذرت للرحمن صوماً.. بل أمرت قلمي.. أن يكف عن البكاء على الورق.. حتى لا أفسد على المحتفلين بذكرى ذاك اليوم الأغر من تاريخ أمتنا.. خشيت وخفت أن أرسم ظلالاً من الحزن على تلك الوجوه المستبشرة.. الفرحة بذاك اليوم رغم الرهق.. وقسوة الحياة.. ومجابهة الوجع.. خشيت أن أغتال الابتسامة تلك التي ارتسمت عريضة ومضيئة.. جزلة على ثغور أبناء وطني.. والحمد لله.. إني لم أذرف الدموع.. دموع الحسرة.. والوجع.. بل والغضب.. وأنا أرى.. الفقراء من أبناء شعبي وهم يخرجون من البيوت الطينية المتصدعة بل تلك الآيلة للسقوط.. أو تلك الألواح.. أو الغرف العشوائية في قلب المدينة أو في أطراف المدينة.. سعدت رغم الجراح والنواح.. وأنا أراهم يحتشدون في الساحات.. ويملأون الطرقات.. وكل ذلك ولأول مرة بالمجان.. يا للمرح.. ها هم.. أبناء ولاية الخرطوم.. ولأول مرة.. يستغلون «البصات» الخضراء المكيفة بالمجان.. وها هم ينتشرون.. على ضفاف النيل.. ويمتعوا أعينهم بالدهشة.. والموج يتابع الموج.. وأيضاً بالمجان.. وبالمناسبة.. ان التمتع بالنظر.. إلى النيل.. أو الجلوس على الضفاف.. هو الشيء الوحيد.. الباقي بالمجان.. بلا رسوم وبلا أثمان.. ولكني اليوم أكتب.. وأنا في وجع.. وتماماً مثل نواح حمد الريح.. وهو يشدو.. اصابح بكرة كيف العيد وعايش فرقتك هسه.. والفراق.. قد حدث وأجرى الدموع.. جداول.. هو ليس كنواح ذاك المتسول.. الذي «قنع» من «كافور» ويئس من عطاء بعد «شحدة ومذلة».. فأنشد وفي الخاطر ولي النعمة «سيف الدولة».. وعيد بأية حال عدت يا عيد.. أبداً هو حالي حال ذاك المتسول الرقيع.. نعم أنا أبكي.. صباح العيد.. بدموع أكثر هطولاً من دموع الخنساء.. بعد الرحيل الفاجع الدامي لصخر.. نعم ولكنها دموع رجال.. بتهد جبال..هدارة زي رعد المطر.. كيف لا أبكي في صباح العيد.. وأحبة أغراء يرحلون.. وإلى الأبد.. كيف لا أبكي وهو أول عيد.. يرتفع فيه العلم.. وتعزف الدفوف.. وتنساب الألحان.. وثلث الوطن.. قد شقته سكين حادة لا تعرف الرحمة.. كيف لا أبكي.. واستيكة بشعة ومخيفة.. تمسح حتى روعة أغانينا.. وتغتال في وحشية.. تذكارتنا وذكرياتنا.. كيف لا أبكي.. ووردي لن يردد بعد اليوم.. من نخلاتك يا حلفا.. وللغابات وراء تركاكا.. كيف لا أبكي.. وجوبا اصبحت خارج إطار الوطن.. و«ميري» لن تذكرنا بعد اليوم مطلقاً.. كيف لا أبكي.. والنهر.. نهر مرسي صالح سراج.. سيطرب ويتثنى ولكن في دولة أخرى.. لقد كان الموت رحيماً بك يا مرسي حتى لا تشهد ذاك المشهد.. يا لروعتك.. وأنت تكتب.. هام ذاك النهر يستلهم حسناً.. فإذا عبر بلادي ما تمنى.. طرب النيل لديها وتثنى.. لقد امتلأت محاجري بالدموع.. دعوني أكف اليوم.. حتى أواصل معكم بكرة.