ü أمامي حالتان نموذجيتان تعبران عن المدى الذي بلغه بعض المسؤولين- غير المسؤولين- وبعض المؤسسات الرسمية- اسماً وتدار مزاجياً- في إهدار فرص البلاد في الاستثمار والتنمية، وفق قرارات تصدر خبط عشواء تحركها الأهواء أحياناً أو المصالح الذاتية أحياناً أو «المكاجرة» وركوب الرأس في أحيان ثالثة، وتكون عاقبة الأمر خسارة للمصالح الوطنية العليا، دون أن تخضع مثل هذه التصرفات لمتابعة أو محاسبة من المراجع الذي بيده مفاتيح الحل والعقد. ü النموذج الأول والصادم، هو البيان «الإعلان» المهم الموجه «لكافة أبناء الشعب السوداني»، من قبل عشرة من الخبراء السودانيين العاملين بالمنظمة العربية للتنمية الزراعية التابعة لجامعة الدول العربية حول المآلات الخطرة والمدمرة التي تحيط ب«البرنامج العربي للاستزراع السمكي في المياه العذبة»، الذي اختارت له المنظمة والجامعة العربية السودان مقراً ومنطلقاً بعد تنافس شديد، وهو البرنامج الذي يستهدف تحقيق زيادة الإنتاج السمكي في الدول التي تتوفر فيها موارد ومسطحات مائية داخلية، والمساهمة في زيادة الإنتاج المحلي الإجمالي والأمن الغذائي فيها، وبالتالي على المستوى القومي العربي، وتوفير «الأصبعيات» اللازمة لدعم صغار المنتجين، بما يساعد في تحقيق أهداف مشروعات الحد من الفقر وتحسين الأوضاع الاقتصادية والتغذية للأسر الريفية، بالإضافة إلى تدريب الكوادر العربية- وفي المقدمة طبعاً الكوادر السودانية- في مجال تقنيات الاستزراع السمكي والصيد في المسطحات المائية الداخلية، وإدخال التربية السمكية في النظم الزراعية القائمة. وقد نجحت المنظمة العربية وبعد جهد كبير في التغلب على منافسة بعض الدول العربية التي كانت لديها الرغبة في استضافة البرنامج واختارت السودان استناداً لموارده مقراً للبرنامج. ü ماذا حدث؟.. يشرح الخبراء السودانيون وقائع ما جرى، انطلاقاً -كما قالوا- من مسؤوليتهم الوطنية، ويعبرون عن الأسى والحسرة لتلك التطورات المؤسفة التي انتهى إليها البرنامج، والتي انطلقت شرارتها بحضور أحد ممثلي «جامعة السلام» بشمال كردفان الذين أتوا إلى مقر المشروع بضاحية «الشجرة» القريبة من الخرطوم يوم 23 يناير الماضي طالباً من مسؤول البرنامج بالمنظمة العربية تسليمه حظيرة الأبقار الموجودة بمقر المشروع، فطلب منه مسؤول البرنامج- حسب الأصول- أن يوافي المنظمة بخطاب من وزارة الثروة الحيوانية والسمكية تسليمه الحظيرة، فاستهجن ممثل جامعة السلام هذا الطلب وأصر على استلام الحظيرة بناء على تعليمات الوزير، فما كان من مسؤول البرنامج إلا الاتصال بمدير إدارة الأسماك والأحياء المائية بالوزارة وإحاطته علماً بالموضوع، فوعدت الإدارة ممثل المنظمة بإرسال الخطاب المطلوب إلى المنظمة، وطلبت من مندوب جامعة السلام مراجعتها لاستلام الرسالة، وتمت مراجعتها- من قبل المنظمة- عدة مرات لإرسال الخطاب ولكن في صباح يوم 26 من ذات الشهر، فوجيء مسؤول المنظمة بعمال يفككون الحظيرة، فطلب منهم التوقف عن العمل، وعندما حضر مندوب جامعة السلام ووجد عماله متوقفين عن العمل هاج وهدد المسؤول «بإرساله إلى الآخرة!!» في حضور الخبراء العرب بالمشروع والمدير العام المساعد، ومن ثم تداعت الأحداث حيث تلقى المدير العام المساعد للمنظمة العربية اتصالاً من الوزير قال فيه «إنه وبعد مضي أكثر من عامين على توقيع الاتفاقية بتخصيص المشروع، لم يبدأ في إنتاج الأربعين مليوناً أصبعية (سمكية) المستهدفة، وطلب منه- على الفور- نقل البرنامج إلى أية دولة عربية أخرى، وأبلغه أنه سيبعث برسالة إلى المنظمة بإنهاء الاتفاق!! واتهم المنظمة بعدم احترام الوزارة والعاملين فيها. وبناء على ذلك قرر (السيد الوزير) إلغاء الاتفاق المبرم بين الوزارة والمنظمة في يناير 2010 والاتفاق بخصوص مركز بحوث الأسماك بالشجرة الموقع في نوفمبر 2009 وعمل الترتيبات اللازمة للمخالصة النهائية بين الطرفين اعتباراً من 29 يناير 2012. تصوروا وزيراً يقرر إنابة عن كل السودانيين- حاكمين ومحكومين- إلغاء اتفاقية مع منظمة عربية على التليفون أو بجرة قلم!! ü تفاصيل القصة طويلة، نشرتها «الصحافة» أمس «تسجيلية» على صفحتها الثانية، ولكن أهم ما فيها أن السودان لم يكن دوره في البرنامج-الذي يمثل مشروعاً استثمارياً رائداً عربياً وسودانياً- سوى تزويد المنظمة بسبعين فداناً من الأرض ومدها بالمياه، وتتكفل المنظمة بكل مدخلات المشروع من آليات وتقنيات وخبرات وتمويل من الصناديق العربية والدولية، وبالفعل بدأت المنظمة بالعمل الميداني وشرعت في تنفيذ البرنامج من «وفورات موازنتها السنوية المعتمدة» حتى قبل الحصول على أي تمويل من الصناديق العربية والعالمية، حرصاً على إنجاح البرنامج وبدء العمل فيه. ومع ذلك انتهى البرنامج إلى التوقف بقرار من الوزير بإلغاء الاتفاقية نتيجة «شكلة» مع ممثل جامعة السلام- نعم شكلة وليست مشكلة- ومن أراد الاستزادة يمكنه العودة للتفاصيل المنشورة بجريدة «الصحافة» الغراء أمس السبت، تلك التفاصيل التي تدمي القلب. ü أما النموذج الثاني، والذي لا يقل إحباطاً عن نموذج المنظمة العربية للتنمية الزراعية التي لا يزال سكان العاصمة يجنون لحم دجاجها وبيضها السمين كأفضل ما في سوق الخرطوم من منتجات الدواجن، فتمثله حالة المستثمر السوري الأصل- سوداني الجنسية- محمود عمر محمود درويش، الذي وجه من على صفحة الزميلة «الصحافة» أيضاً، انتقادات لاذعة «لإجراءات الاستثمار في السودان»، واتهم صراحة مسؤولين بالفساد والتلاعب بالمستندات، وضرب مثلاً لما حاق ب«مصنع نسيج الباقير» الذي اشتراه عبر المصفي «دهب ترسْت» ليفاجأ بعد قليل بسطو جهة متنفذة بالدولة على حوش مساحته «200» ألف متر عبارة عن مساكن لعمال المصنع منذ عام 1976، وكذلك السطو على قطعة أرض أخرى أمام المصنع مساحتها 200 ألف متر أيضاً تستخدم للصرف الصحي، وأفاد درويش أن حكومة ولاية الجزيرة «أبلغته أن شخصاً آخر اشتراها ورُوح أدفع له»!! ü وأوضح درويش أنه ظل يستثمر في السودان منذ العام 1998 ولديه عدد من المشروعات الصناعية في الخرطوم والجزيرة والنيل الأزرق، معتبراً أرض السودان واعدة وخصبة للاستثمار، إلا أن المشكلة في ازدواجية الإجراءات، والإعفاءات التي وصفها بأنها غير حقيقية على أرض الواقع، واشتكى درويش من العديد من المعوقات الجمركية التي واجهته لدى استيراده مصنع آليات وكسارات وقلابات لمصنع الكروم بالنيل الأزرق، ورغم أنها «معفاة من الجمارك»، إلا أنه تفاجأ بعد إحضارها بمطالبته بدفع (1.3) مليون جنيه، فضلاً عن دفع (600) ألف جنيه رسوماً أخرى، الشيء الذي أربك حساباته الاستثمارية، هذا غير إهدار الزمن والتسويف، مما يفتح باباً واسعاً للفساد. ü و«حتى تكتمل الصورة» كما يقول برنامج الأستاذ الطاهر حسن التوم، يمكننا إضافة إفادات محمد الشفيع مدير العلاقات الخارجية بشركة «دال» يوم الأربعاء الماضي للجنة الطاقة والصناعة البرلمانية التي زارت مقر الشركة، والتي عبر فيها عن تخوفات الشركة من تنفيذ وزارة المالية فرض ضريبة على الاستيراد ومدخلات الإنتاج تصل إلى 10%، وحذرت الشركة من أن ذلك سيقود لكارثة وانهيار تام للصناعة، وأوضح الشفيع أن صاحب الشركة أسامة داؤد حرر خطاباً منذ العام 2003 لوزير الاستثمار اشتكى خلاله من جملة مشاكل تعترض الصناعة بالبلاد، وأكد للوفد البرلماني الزائر أن الموقف منذ ذلك الحين وحتى الآن ازداد سوءاً. ü هكذا إذاً مصائب الاستثمار في بلادنا لا تقتصر على جهة دون غيرها، ولا على مستثمر دون آخر، لم تستثنَ المنظمات العربية التي تستهدف نشر التنمية وتقنياتها ومواجهة مشكلات الفقر وآثاره على مستوى المنطقة، ولا الناشطين في مجالات الاستثمار الخاص كالسيد درويش وأضرابه، ولا المستثمرين الوطنيين كشركة دال وأسامة داؤد، ومع ذلك لابد من سؤال يبحث عن الإجابة بإلحاح: من هو المستفيد من إهدار فرص الاستثمار في السودان.. أنا لا أملك الإجابة، وعلى صناع القرار أن يفتشوا عنه، فهو لابد قريب من حيث هم!!