هناك حراك إيجابي وحضاري هذه الأيام في مجال ترقية انتاج الألبان، إذ تتناول الصحف أخبار مهرجان أبقار اللبن السائل الذي تنظمه غرفة الألبان باتحاد أصحاب العمل، في شهر مارس من هذا العام بأرض المعارض، تحت رعاية رئاسة الجمهورية، ويهدف هذا المعرض- كما جاء في إعلاناته- إلى تطوير انتاج الألبان وتبادل الخبرات مع الشركات العالمية، وتدريب ورفع القدرات للعاملين في قطاع الألبان، والعمل إلى تحسين نسل الأبقار، وإنشاء المزارع النموذجية. من ناحية أخرى صرح المهندس عبد الجبار حسين الأمين العام للنهضة الزراعية، بأن النهضة الزراعية ستعمل على تشجيع استخدام التكنولوجيا الحديثة في صناعة الألبان في السودان. ثم قرأت في صحيفة السوداني نهاية العام الماضي مقالاً لأحد كتاب الأعمدة بالصحيفة، الأستاذ عمر محجوب، تحت عنوان تكنولوجيا الألبان يتحسر فيه على الواقع المزري لتناول الألبان في السودان، ويقارن بين وضع صناعة الألبان في ستينات القرن الماضي، حيث كانت مزارع كافوري تمد سكان العاصمة بألبان صحية وسليمة، معبأه في زجاجات تصلهم حتى بيوتهم، ولقد عزا الكاتب التخلف في صناعة الألبان إلى تعدي نظام نميري على مزارع كافوري بالتأميم، مما عطل مسيرة التقنية الحديثة في انتاج وتجهيز وإعداد وتعبئة الألبان، ووصف الوضع التقليدي الحالي لتداول الألبان بولسطة الجوال والراكبة على ظهور الحمير، وعلى متون البكاسي، وكلها مراحل أرتدت اليها الخرطوم بعد تجربة ألبان كافوري التي أممها نميري، وبالتالي حرمت السودان من شركات وخبرات ومؤسسات صاحبة خبرة في التواصل مع العالم والحضارة، والالتزام بمواصفات التصنيع والتعبئة والتوزيع لأهم سلعة غذئية- هكذا طرح الكاتب عمر محجوب رأيه في تكنولوجيا الألبان في السودان، لا شك أن هناك إهتماماً كبيراً بصناعة الألبان، وهناك إرادة لتغيير الواقع المخل لهذه الصناعة، حيث تنشط غرفة الألبان بتطوير الانتاج، ويتحرك القطاع الخاص للاستثمار في إنتاج وصناعة الألبان، وتدخل مؤخراً شركات كبيرة في هذا المجال، وتستثمر مئات الملايين في إنتاج ألبان مبسترة وصحية.. هنا لابد من وقفة متأنية لدفع هذا الاتجاه السليم لصناعة الألبان، أولاً أن تقوم الدولة ممثلة في النهضة الزراعية بتبني مشروع قومي متكامل لتشجيع ودعم صناعة الألبان، يبدأ هذا المشروع ببرنامج توعية يبصر العاملين في هذا القطاع بالمخاطر الناجمة عن التداول العشوائي للألبان، وكذلك تثقيف المستهلك بماهية البسترة، وكيفية التعامل مع الألبان في كل مراحل التداول من المزرعة وحتى الطبخ. بسترة الألبان هي عملية علمية لتصنيع مبسط للألبان، وقد أشتقت من مكتشف التعامل بالحرارة في القضاء على الباكتريا والضارة الفرنسي لويس باستير، وهي بالنسبة للألبان تعني تعريضها لدرجة 72 درجة حرارة لمدة 20 ثانية ثم تريدها سريعاً، حيث يتم القضاء على كل الباكتريا الضارة الممرضة في للألبان، ويصبح اللبن بعد ذلك مبستراً وصالحاً للاستعمال الآدمي، دون أن يفقد عناصره الغذائية المهمة... أما إذا استعملنا درجة الغليان وهي فوق 100 درجة فهي بلا شك تقضي على الباكتريا لكنها تفقد اللبن الكثير من عناصره الغذائية.. وهذا يقودنا إلى الممارسة التي يقوم بها بعض بائعي الألبان، حيث يستعملون أواني من الألمونيوم - «حلل»- يوضع فيها اللبن الخام تحت نار حارقة، وترك ليغلي طول النهار، ليباع بعد ذلك للناس على أنه لبن مبستر، وبعد كل هذا يضعه بعض الناس في أكياس بلاستيكية هو بهذه الدرجة العالية من السخونة.. وهنا لا شك يفقد اللبن الكثير من مكوناته الغذائية.. أما حمله في أكياس البلاستيك يعمل على تفاعل المواد المسرطنة الموجودة في مركبات البلاستيك مع مواد اللبن- ومن هذا المنطلق أرجو أن تقوم أجهزة الرقابة الغذائية بوزارة الصحة بأخذ عينات من هذا النوع من الألبان المنتشرة، وإخضاعه للفحص المعملي لمعرفة مدى الآثار السالبة الناتجة عن هذه الممارسة واسعة الانتشار.. خاصة وأن هذه الألبان هي الغذاء الأساسي لأطفالنا ولكل أفراد الأسرة- أن كل دول العالم المتقدم وحتى دول العالم الثالث من حولنا أدركت المخاطر التي تحيط بتداول الألبان، وعملت على وضع ضوابط واشراطات استثنائية لانتاج وتداول الألبان، تحكم كل المراحل الانتاجية والصناعية.. ونجد في الدول الأوروبية خاصة المملكة المتحدة هناك وجهة واحده يحق لها بموجب القانون التحكم في تسويق الألبان المنتجة في كل المزارع البريطانية، وهي مجلس تسويق الألبان الذي يقوم بشراء كل الألبان المنتجة في المزارع، بعد التأكد من جودتها وصحتها وسلامتها، ثم توزع على المصنعين بأسعار ثابتة، ومدعومة في كثير من الأحيان- وهكذا نجد أن الكثير من الدول الأفريقيا والعربية من حولنا قد تتطورت كثيراً في تكنولوجيا الألبان، حيث تخضع عمليات إنتاج وتداول الألبان لأشطراطات صحية وتصنيعية، تمنع تداول الألبان بصورة عشوائية دون بسترة، خاصة في المدن الكبرى في السودان، الوضع السائد لانتاج الألبان، وتداولها يحتاج إلى مراجعة شاملة، حيث نجد أن معظم أماكن الإنتاج لا تخضع لرعاية بيطرية واشراف مستمر من أجهزة الرقابة الغذائية، حيث هناك الكثير من المخاطر الناتجة من أمراض الحيوان المنقولة بالألبان، إلى جانب صحة البيئة في محيط المزارع، حيث يأكل الحيوان ويشرب، ثم صحة العاملين في حلب الأبقار، ووسائل نقل وحفظ الألبان في المزرعة، وإمكانية تعرض الألبان لتلوث من بقايا العقاقير البيطرية المستعملة دون طبيب بيطري، والتعرض لمضافات كيماوية مثل المضادات الحيوية والفور مالين، حيث يبقى اللبن أطول فترة ممكنة دون أن يتخنثر، ويظهر ذلك في بقاء الألبان طول اليوم يتجول بها البائع، دون أي أثر لتغيرات فيها، علماً بأن الألبان في طقس السودان الحار لا يزيد عمرها عن ساعتين بعدها تبدأ عملية التخنثر- ثم هناك الغش التجاري المعروف باضافة الماء إلى اللبن والذي غالباً ما يكون من مصادر ملوثة.