عندما انتصف نهار الجمعة أمس الأول، التي اسموها «جمعة النصر» فض المناصير اعتصامهم في الدامر، مقر رئاسة ولاية النيل، بعد أن أكدوا تصميمهم على نيل حقهم في «الخيار المحلي»، ورفضوا التهجير، وطالبوا بحقوقهم المشروعة والمكتسبة في أرضهم وممتلكاتهم وزروعهم التي ذهبت مع سد مروي. ü فض الاعتصام جاء نتيجة اتفاق بعد تفاوض مضنٍ بين مجلس المتأثرين والحكومة بشقيها المركزي والولائي، من أجل تثبيت الخيار المحلي الذي رفضته الحكومة ابتداءً ، وتلكأت لاحقاً في تنفيذه بعد أن أقره رئيس الجمهورية بعد طول انتظار، وبعد مواجهات وأحداث دامية، أكدت إصرار المناصير على حقوقهم مهما كان ثمن التضحيات. ü يتلخص الاتفاق الذي تم توقيعه بين قيادة المناصير المعتصمين وولاية نهر النيل- بحسب رئيس لجنة الوساطة والي الولاية السابق حسن عثمان رزق- في: توصيل الكهرباء لمناطق الخيار المحلي خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة شهور، وتنفيذ طريق كريمة-أبوحمد، واستلام ملفات من إدارة السدود -لم يوضح طبيعتها أو غرضها- وشروع الولاية في تكوين لجان صرف التعويضات والإعاشة، وتعهد وزير الزراعة بتنفيذ أربعة مشاريع زراعية وتشييد المبنى الإداري للمحلية، وتشييد 300 منزل بمنطقة «الطوينة»، والتزم والي الولاية بدفع 15% من قيمة التشغيل، بالإضافة الى إنشاء هيئة لتنفيذ مشروعات الخيار المحلي «التوطين والتعويض». ü الملاحظة الرئيسية على هذا الاتفاق هي خلوه من جدول زمني، إذا ما استثنينا فترة «الثلاثة شهور» التي أعلن عنها رئيس لجنة الوساطة رزق فور توقيع الاتفاق، كما أنه خلا من الأرقام التي تحدد الموازنة المرصودة لتنفيذ متطلبات الخيار المحلي من جميع وجوهها، قيمة المنازل الثلاثمائة المطلوبة للتوطين أو تكلفة المشاريع الزراعية الأربعة اللازمة للعمل والإعاشة أو حتى قيمة التعويضات المقررة للفرد أو الأسرة، والتي ربما جرى التعويل فيها على الأرقام المقررة قبل سنوات مضت، أثناء فترة التفاوض على إنشاء السد، ولابد أنها أرقام عفا عليها الزمن بحكم التدهور الكبير الذي أصاب قيمة الجنيه السوداني خلال العام الأخير بعد انفصال الجنوب. ü غياب الجدول الزمني للتنفيذ وغياب الأرقام والتكاليف المالية الملزمة، يفتح -كما نرى- الباب مجدداً للحكومة للتسويف والمماطلة في انجاز التزاماتها المعلنة بحسب الاتفاق. وما يدفع المرء لسوء الظن هذا، هو أن الحكومة وإدارة السدود لم تكن موافقة أصلاً على «الخيار المحلي» ولا متحمسة له، وهذا ما جعلها تضرب صفحاً عنه، وما اضطر أصحاب الخيار المحلي للاحتجاج والاعتصام الذي امتدّ لأكثر من مائة يوم.. فهي بالتالي قبلت بهذا الاتفاق الجديد مضطرة، وشتان بين قبول الراغب وقبول المضطر «الذي يركب الصعب» على قول المثل. ü وبرغم تجربتهم المريرة مع الحكومة، فإن أصحاب الخيار المحلي رأوا أن يظهروا حسن النية، والتجاوب مع جهود الوساطة، والقبول بالاتفاق الذي اقترحته، لعل وعسى أن تصدق الحكومة هذه المرة وتعمل على تنفيذه دون إبطاء او تلكؤ، دون أن يغيب بالهم ونظرهم -طبعاً- احتمال أن تعود «حليمة الحكومة، الى قديمه». فتعمد الى شراء الوقت عوضاً عن الاتجاه فوراً وبجدية وتصميم الى وضع الاتفاق موضع التنفيذ، وهذا ما يمكن قراءته في تصريح رئيس لجنة المتأثرين من قيام سد مروي أحمد عبد الفتاح الذي قال أمس -بحسب «الصحافة»- إنهم «لم ينهوا الاعتصام بل رفعوه الى حين تطبيق الاتفاق على أرض الواقع، وحتى تلتقط الحكومة أنفاسها، وإذا عادوا عدنا، وأي خلل في تنفيذ الاتفاق من قبل الحكومة سيقود لوسائل ضغط أخرى، وإن المعتصمين سيكونوا ضامنين ومراقبين لتنفيذ الاتفاق ميدانياً». ü نعم، تجربة المناصير في الاحتجاج عبر التظاهر والاعتصام السلمي تجربة جديرة بالنظر والتأمل، فهي من جهة تؤكد تمسك الشعب السوداني أو قطاعات عريضة منه بنهجه وموروثه الحضاري-الديموقراطي في التعبير الحر عن الإرادة الشعبية لنيل المطالب والحقوق المغتصبة، وأن تلك الإرادة الشعبية إذا ما اتحدت وتضامنت عناصرها، فإن السلطة -اية سلطة مهما تجبرت واستشعرت القوة- ستجد نفسها مضطرة في النهاية للتجاوب مع تلك الإرادة التي لا يغلبها غلاب.. كما أن هذه التجربة تضع الحكومة -مرة أخرى- أمام امتحان المصداقية، فإما أن تنفذ ما وعدت به في الاتفاق، أو تسقط في هذا الامتحان الجديد في عيون كل السودانيين.. فاتفاق الخيار المحلي «انبوب» اختبار وما علينا إلا الإنتظار.