تناولنا في الحلقة السابقة مشكلة عدم توفر النصاب القانوني بصورة متواترة طيلة عمر التجربة البرلمانية السودانية، وقلنا إن الكثير من الجلسات كانت ترفع لعدم اكتمال النصاب، وأشرنا إلى أن معالجات مختلفة قد جُربت لتجاوز هذه المعضلة، ومن بينها التفرقة بين النسبة المطلوبة لمجرد الانعقاد والتداول، وبين تلك المفترضة لاتخاذ القرارات أو لإجازة مشروعات القوانين في مرحلة العرض الأخير. في هذه الحلقة سوف نعقد مقارنة بين النسب المختلفة للنصاب عبر الحقب الدستورية المتعاقبة، مع توضيح للحالات التي كان الدستور يشترط فيها أغلبية كبيرة أو خاصة نظراً لخطورة أو أهمية الموضوع المطروح للنقاش. وقبل ذلك لابد من شرح المصطلحات ذات العلاقة، وهي الأغلبية (البسيطة) والأغلبية (المطلقة) والأغلبية (الخاصة). الأغلبية البسيطة أوالنسبية، تعني أن ترجح كفة المؤيدين للاقتراح ولو بصوت واحد، فإذا تعادلت الأصوات اعتبر الاقتراح مرفوضاً ويسقط، أما الأغلبية المطلقة فيشترط فيها أن تكون من جميع الأعضاء، وليس الأعضاء الحاضرين فقط، فإذا افترضنا مثلاً أن جملة أعضاء المجلس أربعمائة عضو، ونص الدستور أو اللائحة على إجازة القرارات بالأغلبية المطلقة، فهذا يعني أن يصوت لجانب الاقتراح مئتا عضو على الأقل. فيما يتعلق بالأغلبية الخاصة، فالمقصود هو النسبة التي حددها الدستور أو اللائحة لموضوع خاص، وتكون الأغلبية الخاصة، وهي عادة أغلبية كبيرة جداً، في حالات تعديل الدستور أو طرح الثقة في وزير أو والي، أو التغلب على اعتراض رئيس الجمهورية على مشروع قانون إجازة المجلس.عودة إلى مقدار النصاب الذي كان معمولاً به في البرلمانات السابقة، نجد أن هذا المقدار كان قليلاً جداً في ظل البرلمان الأول عام 1954م، والبرلمان الثاني عام 1957م، وحتى الجمعية التأسيسية عامي1965و1968، إذ كان خمسا أعضاء المجلس هو العدد المطلوب لانعقاد الجلسة، أما نصاب اتخاذ القرار فكان الأغلبية البسيطة، ولم تعرف تلك البرلمانات أغلبية خاصة إلا لتعديل الدستور، لهذا السبب كان لمجرد الصوت الواحد تأثير كبير على مجريات الأمور، ولقد حدث أن سقطت الميزانية بصوت واحد، وفاز اقتراح بسحب الثقة، سقطت بسببه حكومة الأزهري بثلاثة أصوات فقط. ويرى الأستاذ الراحل عبد الماجد أبو حسبو، السياسي والقانوني والبرلماني الضليع، في مذكراته القيمة، أن ذلك كان مدعاة- مع أسباب أخرى- لرواج عملية شراء الأصوات والذمم، بل وإفساد الحياة السياسية آنذاك، ولقد أشار لذات الأمر الصحفي الكبير الراحل عبد الرحمن مختار في كتابه «خريف الفرح» والذي وثق لتلك الفترة. في البرلمانات المايوية، ارتفع النصاب لنصف الأعضاء حتى تبدأ الجلسة بصورة قانونية، بيد أن أخذ القرار كان يحتاج لأغلبية الحاضرين فحسب، لكن الدستور المايوي دستور السودان لعام 1973 اشترط أغلبية الثلثين لسحب الثقة من الوزراء، ولتعديل الدستور، ولعرض مسألة مختلف عليها على الاستفتاء الشعبي. في فترة الجمعية التأسيسية الثالثة (1986- 1989)، انخفض النصاب إلى 30% من الأعضاء، وعلى ذاك المنوال سار دستور 1998م، إبان فترة المجلس الوطني الانتقالي، الذي نص على ثلث الأعضاء للانعقاد العادي، والنصف عندما يحتاج المجلس للتصويت على قانون في مرحلته الأخيرة، أو إذا رأى رئيس المجلس أن أهمية الموضوع المطروح تقتضي حضوراً أكبر. ولإجراء مقارنة مع الدول الأخرى، خاصة تلك العريقة في الممارسة البرلمانية كبريطانيا، نكتشف أن النصاب القانوني اللازم لانعقاد مجلس العموم البريطاني هو أربعون عضواً فقط، ولاجتماع مجلس اللوردات ثلاثة أعضاء لا غير!! بيد أن كلاً من الحكومة والمعارضة في بريطانيا تحرص على حشد نوابها عندما يجد الجد، وهناك قيادي مهمته حث الأعضاء على الإسراع للقاعة عندما يحين ميعاد التصويت على القضايا الكبرى. بالنسبة للدول العربية فإن بعضها (مصر، لبنان والعراق)، أخذت بمبدأ حضور أغلبية جميع الأعضاء، بينما ارتأت أقطار (سوريا وتونس) ترك أمر النصاب للوائح الداخلية.ولما أخذ التغيب المستمر عن جلسات الجمعية التأسيسية الثالثة في أواخر ثمانينات القرن الماضي شكل الأزمة، لجأت رئاسة الجمعية إلى تكليف الدكتور (المرحوم) فضل الله علي فضل الله- أستاذ الإدارة ونائب حزب الأمة عن دائرة الكبابيش، بإعداد دراسة علمية عن ظاهرة الغياب المزعجة، ولقد أنجز الدكتور فضل الله المهمة على خير وجه، مستعيناً باستبيان وزعه على الأعضاء، وطلب منهم أن يوضحوا أسباب التخلف عن الحضور، مرتبة حسب أهميتها في نظرهم، وللحق فقد كانت المبررات التي ساقوها مذهلة لكنها صادقة وأمينة في ذات الوقت. العامل الأول للتغيب- في رأي النواب- كان إحساس الأعضاء بضآلة دورهم وضعف تأثير الجمعية على مجريات الأمور، إذ انحصر عملها في تمرير السياسات والقرارات المعدة سلفاً من خارج الجمعية، وأن الجمعية لم تكن مكان صنع السياسات المصيرية، وأن المواضيع التي يزدحم بها جدول أعمالها كانت قاصرة على قضايا روتينية وهامشية. وثاني هذه الأسباب، ضعف المخصصات المالية واضطرار الكثير من الأعضاء إلى امتهان أعمال أخرى تزيد من دخولهم حتى يتمكنوا من مواجهة تكاليف النيابة العالية. وثالث هذه العوامل، انشغال الأعضاء بمهام تتعلق بدوائرهم وناخبيهم، وقضاء وقت كبير في متابعة الأغراض الفردية والجماعية في الوزارات والمصالح الحكومية. وقد يختلف الناس الآن في الحكم على هذه الأسباب وفي وجاهتها، بل وفي مشروعيتها على خلفية أن من قبض الأجر حاسبه الله بالعمل، ولعل ذلك كان مدعاة لمشرعي دستور 1998 لاحقاً، لإضافة التزام غير معهود على صيغة قسم الأعضاء التقليدية، مفاده إعلان العضو وتعهده- على المصحف أو الكتاب المقدس- بأن يحرص على المواظبة على حضور الجلسات والمشاركة بفعالية في المداولات وأعمال المجلس. والله من وراء القصد،،