يُمثل توفر النصاب القانوني أحد الشروط الأساسية لصحة انعقاد الهيئات الاعتبارية والأجهزة التنظيمية والمسوغ القانوني لإضفاء المشروعية على مخرجات ونتائج اجتماعات تلك الكيانات. وبالنسبة للمؤسسة النيابية، فاكتمال النصاب يعني ببساطة حضور نسبة محددة، أو حد أدنى من مجمل العضوية، منصوص عليه سلفاً في الدستور أو اللائحة. والغاية من التمسك بتوفر النصاب، هي ضمان ثقل برلماني يرفد المداولات والقرارات التشريعية، بالوزن الأدبي والقانوني الكافي واللائق بأعمال جهاز رفيع القدر كالمؤسسة النيابية، ولإقامة الدليل على أن ما يصدر منها يعكس إرادة وتوجهات الغالبية العظمى من الأعضاء، وهي نتيجة لا يمكن الاعتداد بها إذا ما كان الحضور ضئيلاً مقارنة بمجموع الأعضاء، الأمر الذي يقود إلى تشكك خطير حول أهلية العدد المتواضع لتمثيل البرلمان والتقرير إنابة عنه، خاصة في القضايا الكبرى المتعلقة بالتشريع والرقابة والسياسات العامة. لهذا السبب، أجمعت النظم البرلمانية في كثير من الديمقراطيات الحديثة والعريقة على حتمية فض الجلسات إذا لم يكتمل النصاب في بداياتها، وباءت محاولات رئاسة البرلمان لحشد العدد المطلوب بالفشل، ذلك لأن غياب النصاب ينطوي على فقدان للمشروعية يمكن أن يطال كل ما يصدر عن تلك الاجتماعات أو الجلسات ناقصة النصاب، وقد يقود إلى طعن دستوري مصوب إلى صحة وسلامة التدابير المتخذة. وهناك عدة أنواع من النصاب كنصاب الانعقاد، ونصاب إجازة التشريعات، ونصاب اتخاذ بعض القرارات المهمة، ونصاب توجيه الاتهام لشاغلي المناصب السيادية، ونصاب اعتماد الترشيحات لبعض المواقع القيادية في الدولة، ونصاب تعديل الدستور، ونصاب سحب الثقة من الوزراء، بيد أن الذي يهمنا في هذه الحلقة نصاب الانعقاد، ونصاب اتخاذ القرارات. وفق الدستور الانتقالي الحالي (المادة 97)، فالأصل أن لا تكون الجلسة صحيحة إلا إذا حضرها أكثر من نصف جميع الأعضاء، لكن ذات المادة من الدستور أجازت للمجلس الوطني أن ينص في لوائحه الداخلية على نصاب أقل، شريطة أن لا يسري هذا النصاب الأقل على إجازة القوانين في مرحلة العرض الأخير، أو على أية مسائل خصها الدستور بنصاب خاص، قصد المشرع هنا واضح وهو التفرقة بين النصاب العادي المطلوب لبدء التداول، وبين النصاب الخاص المتعلق باتخاذ القرارات وسن القوانين، ذلك لأن التداول بعدد أقل لا يمثل مشكلة إذا لم ينتهِ ذلك التداول إلى إصدار قرارات تحتاج إلى سند قوي ودعم مقدر من عضوية المجلس. وللاستفادة من هذه الرخصة التي أتاحها الدستور، قام المجلس الوطني بالنص في لائحته على جواز أن يسمح الرئيس ببدء الجلسة أو استمرارها، بحضور ثلث الأعضاء بدلاً من أكثر من النصف، متى ما رأى ذلك مناسباً. وللحقيقة، فإن مسألة توفر نصاب الانعقاد ظلت تشكل طيلة عمر التجربة البرلمانية السودانية، إحدى أبرز أوجه القصور الكبيرة في الممارسة النيابية، وهاجساً ظل يقض مضجع المهتمين والمتابعين والمعنيين بترقية الأداء البرلماني. وباستقراء محاضر المؤسسة التشريعية في كل العهود السياسية والأنظمة الدستورية المتعاقبة، نلحظ وبوضوح تام، أن غياب الأعضاء عن كثير من الجلسات شكل ظاهرة مقلقة، ومسلكاً متواتراً لم تفلح في معالجته كل الجهود التي بذلت من قبل قيادات البرلمان، والتي كانت مرغمة على اتباع واحد من خيارين، إما رفع الجلسة بعد قرع الجرس عدة مرات، أو غض الطرف عن نقص النصاب، إلا إذا أثير الأمر في صورة نقطة نظام من أحد الأعضاء المشاكسين. ولقد كان تخلف الأعضاء عن جلسات البرلمان مدعاة لنقد مرير وتندر ساخر من قبل الصحف والمحللين السياسيين، وفي الذاكرة كاريكاتير مشهور للرسام الراحل العبقري عز الدين عثمان، عندما رسم القاعة خالية من الأعضاء، بينما البوفيه مكتظ بهم، وأجرى الرسام عز الدين على لسان أحد الأعضاء، تعليقاً مفاده أن النصاب تام هنا، مشيراً إلى ردهات البوفيه أو مقهى الجمعية التأسيسية القائمة آنذاك. وكان التصدي لهذه الظاهرة من قبل قيادة المجلس، يأخذ مسالك مختلفة، منها الترغيب عبر رصد مكافآت لحضور الجلسات، بالإضافة إلى الراتب الشهري، أو الترهيب بالتهديد بوقف المخصصات، أو التشهير بتلاوة أسماء الأعضاء المتغيبين في بداية الجلسة التالية، حتى يعلم الناخبون إلى أي مدى يلتزم ممثلوهم بمقتضيات وواجبات العضوية، وشرف التمثيل النيابي. وفي بعض الأحيان كانت رئاسة البرلمان تلجأ للتحايل على اللائحة، وذلك عبر حيلة إجرائية قديمة لا تسندها مرجعية قانونية، وتتمثل هذه الحيلة في إسقاط أسماء الأعضاء المعتذرين، أو الذين في مهمة رسمية من قائمة الغياب، واعتبارهم حضوراً حكماً، وبذا يمكن توفير النصاب المطلوب زوراً وبهتاناً. وفي أحيان كثيرة، كان بعض الأعضاء يستغلون نقطة الضعف هذه- أي عدم اكتمال النصاب- في الضغط على رئاسة الجلسة، بإثارة نقطة نظام حول النصاب، أو التهديد بذلك، للحصول على فرص حديث، أو تنازلات إجرائية. كما أن استخدام سلاح النصاب هذا، لم يكن قاصراً على الأعضاء كأفراد، لكنه أخذ في مواقف ومناسبات عديدة شكل المخطط المتعمد من قبل كتل وجماعات برلمانية، بقصد شل قدرة المجلس على اتخاذ قرارات ليست في صالح تلك الكتل والجماعات. ولتجاوز هذه العقبة لجأ المشرع الدستوري إلى تخفيض مقدار النصاب المطلوب لبدء الجلسة إلى مستوى متدنٍ لا يمكن تبريره إلا على ضوء الضرورة العملية، والتماشي مع الظروف الواقعية. وفي الحلقة القادمة نواصل الحديث.. والله من وراء القصد..