انصرمت أعوام ولكن رغم «البعد والنوى» ما غبتِ يوماً عن خاطري.. رغم أن الذكرى لا تدفع أمراً كان مقضياً ولا تستجلب أحباء من عوالمهم الأخرى.. كنت يا «أمي» الحبيبة ولا أزال كلما ضاقت بي الحيل.. وأغلقت دوائر الدهر حولي متين أحكامها.. هرعت إلى وجهك الصبوح استنجده قليل مودة واتكاءة حنان.. واستجديه دفئاً وأماناً.. تتقاصر دونه الأمنيات.. وقد كنت دائماً على الموعد.. رغم مرور السنوات على تلك الليلة الشاتية التي رحلت فيها فدفعنا عن فراقك فيها «مهر الاصطبار»!.. أضناني السلوان وصوتك الحنون الدافيء لا يفتأ يؤرقني.. وطيبة قلبك اللا متناهية.. تذكرني بعظيم خصالك.. ولا زلت أذكر حين أحيل أبي للمعاش.. وذهبنا لنسكن في «منزلنا» غير المكتمل في أحد الأحياء الراقية- ولم يحضر الجيران لزيارتنا حيث ظنوا أننا «خفراء».. فإذا بها تخرج إلى كل الحي وتسلم عليهم.. وأيضاً لم يحضروا.. فكررت الزيارة وكنا نقول «لا تذهبي يا أمي وتهدري كرامتك لأصحاب العمارات.. لماذا لم يبادلوك الزيارة».. وكان ردها بمثابة درس تعلمناه جميعاً «قالت إن يوم القيامة «كل إنسان يحاسب لوحده.. ويسأل عن جاره.. ولن تعامل الناس كما يعاملوها.. إن أحسنوا أحسنت.. وإن أساءوا أساءت..! ولكن ستفعل فقط ما يرضي الله وتحاسب به..! وبمرور الأيام والسنوات أضحى منزلنا البسيط قبلة لكل أهل الحي!!.. كانت أمي رحيمة تحب المساكين.. وتطعم أبناء السبيل وأصحاب البقالات والدكاكين المجاورة..! وكانت كريمة لا تبخل بالمعاملة والبشاشة والنصح والإرشاد.. والعطاء.. وكانت امرأة قوية مثقفة.. بارة بأهلها.. صبورة على زوجها.. بقي «أبي» عشر سنوات قعيد الفراش بعد أن أصابه الشلل وهو في عنفوان شبابه.. فقامت على خدمته بلا تأفف أو ضجر.. *زاوية أخيرة اشتاقك أمي.. غلبتني هذه الأيام مشاعر التحنان وبفراقك تركت حلاوة كل شيء علقماً.. وأكل الضنى جسدي ورضّ الأعظما..!!