وصفت القلة المعارضة للاتفاق الإطاري الأخير بأنه يشكل نوعاً من التفريط في المصالح، وذهب بعضهم إلى خلفية أبعد من ذلك، فسُحب هذا الاتهام على اتفاقية نيفاشا نفسها، وهم إنما ينطلقون من غيرة دينية ووطنية، بينما يملك النظام غيرة مثلها، ولكن يستند إلى مرجعية دينية ووطنية أخرى تتصل بحسن السياسة في إدارة هذه القضية، مما سنطهر آثارة الإيجابية بعد حين- بإذن الله تعالى. فهذا الاتهام لا يصح قط في حق نظام غيَّر وجه الحياة في السودان لما هو أفضل، تغييراً نوعياً، وحقق انتصارات مبهرة على الحركة الشعبية إبان تمردها قبل نيفاشا، مما الجأها إلى شريط حدودي إلى الجنوب من الولاياتالجنوبية، ثم عقد معها اتفاقية نيفاشا، فهو ذهب إلى الاتفاقية من موقع القوة وليس من حالة المنهزم المستسلم، وكذلك يفعل الآن، فقد دحر حركتي التمرد في جنوب كردفان والنيل الأزرق، مما الجأهما إلى دولة الجنوب، حيث وجد لديها الإيواء والتدريب والتسليح والإسناد اللوجستي، ووحدهما مع حركات دارفور الرافضة لاتفاق السلام بالدوحة، في تحالف «الجبهة الثورية» فالنظام، أو حكومة الجبهة العريضة قد ذهبت إلى توقيع الاتفاق الإطاري بأديس أبابا من موقع القوى التي تحافظ على السيادة الوطنية، على التراب السوداني، الذي تتبع له الولايتان الشماليتان، ثم إن الملف الأمني في هذا الاتفاق يأتي في صدارة الملفات الأخرى، حتى يضمن- على الأقل- التنقل الحر للرعاة السودانيين جنوباً، مع حرية المبادلات للمنافع مع القبائل الجنوبية، في إطار ما كان يعرف بمناطق التمازج الحدودية. وقد كانت لي بهذا الباب «شيء من فكر» بهذه الصحيفة المرموقة بتاريخ 28/2/2012م معالجة لهذه القضية- أي قبل أكثر من اسبوعين من توقيع الاتفاق الإطاري الأخير- جاء فيها ما هو آتٍ: وضعت الحكومة السودانية ضمن استراتيجياتها استدامة الأمن والسلام في الاقليم السوداني المشترك بين الدولتين، وهذا ما يحول الانفصال إلى إنفصال سياسي مع تكامل اقتصادي وتواصل اجتماعي، خصوصاً أن بينهما مصالح حيوية مشتركة، وتداخل سكاني على حدودهما، وهي الأطول دون دول الجوار الأخرى للدولتين، وكان من المأمول أن تمتد الشراكة بينهما بعد الانفصال، في سبيل الحل التفاوضي المرن للمسائل العالقة، وكانت حكومة السودان تتطلع إلى ذلك، سواء في ملف الحدود أو في ملف أبيي، باعتبار أنهما يمكن أن يتحولا إلى مناطق تكامل، أو حتى في ملف النفط، حيث لا تطالب حكومة السودان إلا بحقوقها المشروعة دولياً، وهناك قضايا مشتركة عديدة أخرى، كالتكامل التجاري، ويمكن أن يتفقا كذلك على الحريات الأربع لسكان الدولتين، وذلك في إطار تقدم علاقات التكامل بينهما.. هكذا كانت معالجتي للقضية قبل الاتفاق الإطاري، وستكون كذلك بعده، على أساس أن هذا الاتفاق امتداد لاتفاقية نيفاشا كمسائل عالقة منها ما لا يسع حلها إلا في أجواء التفاوض المرن. وهكذا يلتزم النظام بمبدأ السلام في معالجته للأمر الواقع، فما هو مبدأ السلام؟ وما هو الأمر الواقع؟ أما مبدأ السلام فمرجعيته هي الأمر الإلهي لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وكل نظام إسلامي للحكم يتخذ الإسلام مرجعية له، بقوله تعالى «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله أنه هو السميع العليم» وأسباب نزول الآية، وهي آية السلام التي تتصل بصلح الحديبية، الذي عقدها النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم مع مشركي مكة، حين مالوا إليه، وذلك على الرغم مما بدا في وثيقة الصلح من شروط مجحفة في حق المسلمين بادئ الأمر، ولكن التسع سنوات التي تلت الصلح أثبتت صرف الوعد الإلهي للمسلمين بدخول الناس في دين الله أفواجا، بما فيهم مشركو مكة، حيث كسب المسلمون بالمصالحة أضعافاً مضاعفة مما كسبوه بالمحاربة من مصادر القوة، وهكذا فإن الميل الطبيعي للمسلمين في التماس السلام، يفتح عليهم أبواباً أوسع من المنافع، حيث يلد السلام مزيداً من السلام، فالمسلمون كانوا المنتصرين قبل صلح الحديبية، ولكنهم بالصلح حققوا الفتح المبين «إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً». أما الأمر الواقع الذي يطبق عليه النظام مبدأ السلام، في آية السلام، فليس كما يصوره معارضو الاتفاق الإطاري، بأنه سيسير لغير مصلحة البلاد بهذا الاتفاق، وإنما هو بكل ما يحيط به من ظروف محلية وخارجية يصب في اتجاه غاياتها العليا، واستراتيجياتها الكبرى، من استدامة السلام في السودان بأجمعه، مع علاقات متطورة نحو التكامل مع جيرانه كافة، ومن باب أولى دولة الجنوب الأقرب جغرافياً وديمغرافياً، والأطول حدوداً، والأكثر تشابكاً في المصالح والمنافع. صحيح أن السودان قد حقق انتصارات مشهودة في الحرب الأهلية بالجنوب قبل نيفاشا، ولكنه صحيح أيضاً أن قوى كبرى منحازة وداعمة للحركة الشعبية ما كانت لتتركها تستسلم للجانب السوداني، بل كانت ستتدخل عسكرياً، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لمد نطاق الحرب أوسع فأوسع، مما كان سيهدد كيان السودان بكل جهاته، فاتفاقية نيفاشا قد درأت ضرراً أعم «ودفع الضرر مقدم على جلب المنفعة»، ثم أن المنفعة ربما تكمن لاحقاً في هذا الاتفاق الإطاري الذي سيبطل المفعول التاريخي لقانون المناطق المقفولة في ثلاثينيات القرن الماضي، الذي سنه الاستعمار البريطاني، وظل سارياً بصورة من الصور من خلال موجات التمرد لعشرات السنين، ثم بتوتر علاقات الشريكين في الفترة الانتقالية، حتى الانفصال الذي أحكمت به الحركة الشعبية قفل الجنوب بسياسة التعنت في المسائل العالقة من خلال القطيعة، بل المقاطعة، ومنع أي علاقات حميمة مع السودان تسمح بالتكامل الاقتصادي والتواصل الاجتماعي مع الجنوب.. فكأن الاتفاق الإطاري يبني علاقات جديدة من الثقة المتبادلة التي تسمح بالمصالح المتبادلة، وفاتحة هذا العهد الجديد وقف الدعم الجنوبي للجبهة الثورية، حتى يعم الأمن ولايتي شمال كردفان والنيل الأزرق، وتستكمل حلقاته بدارفور. ثم إن هذا الاتفاق الإطاري قد وجد التأييد الدولي والاقليمي، وخصوصاً من الصين الشريك الاستراتيجي للسودان، ومن روسيا الشريك المحتمل، ومن الشركاء الآسيويين، ومن الاتحاد الأفريقي الوسيط، والجامعة العربية الداعمة للسودان، وذلك مما يفتح آفاقاً أوسع لتدفق الاستثمارات الخارجية، حتى من دول غربية سعياً لمصالحها في أجواء الأمن والسلام في هذه المنطقة السودانية. وعلى الغرب أن يدرك أن السودان يملك حرية الحركة في المحيط الدولي، مع ارهاصات الحرب الباردة الثانية التي أخذت تتشكل معالمها بين المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين، وهي حرب ناعمة ذات أسلحة اقتصادية يملك السودان فيها قوة المناورة!!. أما المعارضون للاتفاق الإطاري من القوى السياسية- وهم قلة- لا تؤثر في تماسك الجبهة الداخلية حول الاتفاق، فلهم، الحق المشروع في إبداء الرأي الآخر، وذلك من الاستحقاقات الديمقراطية، ويمكن أن تستفيد الحكومة من مواقفهم في المفاوضات الشاقة المقبلة، ككرت ضاغط لمصلحتها إزاء حكومة الجنوب. والله المستعان