في مواسم الأعياد يتبادل الناس عبارات الفرح والابتهاج ثم يتبعونها عادة بتقديم الهدايا عنواناً للوفاء والمودة ولما كانت الإذاعة السودانية تحتفي بعيدها السنوي بعد بلوغها السبعين، كانت هديتها لمستمعيها الأوفياء إنشاء إذاعة ذاكرة الأمة، التي عهد إليها بمهمة البحث والتنقيب في أضابير مكتبة الإذاعة التي تحوي بين طياتها صنوفاً شتى من الأدب والثقافة والفكر وسائر ألوان الفنون، فقد انتخبت الإذاعة الوليدة ضمن برامجها حلقة نادرة من برنامج «مع نجوم المجتمع» الذي كان يعده ويقدمه الإذاعي الراحل حسن محمد علي خلال حقبة الستينيات جاءت الحلقة مع الأستاذ حسين محمد أحمد شرفي نائب الوكيل الدائم لوزارة الداخلية وقتذاك فهو من الاداريين الأفذاذ القلائل الذين شقوا دروب الحياة المختلفة وارتادوا مجالاتها، وتجولوا في فجاج الوطن الحبيب من خلال عدد من المناصب التي تقلدها عبر رحلته العملية، ففي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي تم تعيينه مفتشاً بمركز مروي فأضاف إلى عمله هناك بعداً جديداً لتجربته الادارية فعمل مع مجموعة من الموظفين على جمع وتأليف «مرشد مروي» كمرجع أساسي يعين الدارسين للتعرف على طبيعة وجغرافية المنطقة. يقول الأستاذ شرفي أثناء وجودي في مروي، جاءها الأستاذ عبد الكريم الكابلي منقولاً للعمل بإدارة السجلات فتعرفت عليه وأدركت موهبته الفنية وعند نقلهما معاً من مروي الى الخرطوم في العام 1957م استطاع شرفي أن يقنع الكابلي بعد جهد شديد بضرورة التقدم للإذاعة لإجازة صوته بعد أن تم تعيين شرفي رئيساً لمصلحة الاستعلامات التي كانت الإذاعة تقع ضمن دائرة اختصاصها فكسب السودان فناناً عملاقاً مازال يتمدد في ساحة الإبداع طولاً وعرضاً بصوته الدافئ الشجي وتغنيه بالكلم الجميل. أثناء الحلقة انتهز الأستاذ حسن محمد علي وجود رئيس الاستعلامات ضيفاً على البرنامج فتعرض لبعض سهام النقد اللاذع التي أطلقها المثقفون عبر الصحف تجاه برامج الإذاعة وضعفها أيام الحكم العسكري معزياً السبب الرئيسي في ذلك الى قلة الامكانيات فالإذاعة كانت تعمل سبع ساعات في اليوم تمت زيادتها الى ثماني عشرة ساعة دون أن يقابل ذلك توسع في العمالة والموظفين ورصد الاعتمادات المالية اللازمة، ورغم ذلك كان العاملون بالإذاعة يؤدون واجبهم على أكمل وجه فزيادة زمن البث لم تصحبها دراسة متأنية، وانما جاءت بصورة عاجلة كقرار فوقي لابد من تنفيذه ليشير رئيس مصلحة الاستعلامات الى حديث مقدم البرنامج مؤمناً عليه، ومضيفاً أن العمل في الإذاعة يعتبر عملاً شاقاً فغالبية الناس كانوا لا يحبذون العمل في الإذاعة ويهرعون للالتحاق بالمصالح الأخرى التي تنتهي ساعات الدوام فيها عند الساعة الثانية ظهراً، فكان من رأيه أن توفر للعاملين بالإذاعة شروط خدمة أفضل تجذبهم للإنخراط في سلكها، مثل تخصيص منازل كثيرة حول الإذاعة تخصص للعاملين والإذاعيين الذين تضطرهم ظروف العمل لملازمة الإذاعة صباحاً ومساءً، «حظكم كعب يا ناس الإذاعة فقد ضاعت منكم فرصة العمر» الجملة الأخيرة من عندي. في ثنايا الحوار ذكر الأستاذ شرفي أن الإذاعة تعتبر من أهم أجهزة الدولة على الإطلاق، فكانت توجه خدماتها لنحو أثني عشر مليوناً من البشر يمثلون تعداد سكان السودان في ذالك الوقت فكان لابد من مخاطبة هؤلاء بانتاج البرامج التخصصية للزراع والرجال والنساء والرعاة وأهل الريف كمواعين إذاعية تخدم قضاياهم وتحل مشاكلهم فالراديو كان هو عنصر الترفيه الوحيد والمهم قبل انتشار السينما وظهور التلفزيون ليلتقط زمام الحديث الأستاذ حسن محمد علي مؤكداً أن من مهام الإذاعة الأساسية هو توحيد الأمة عن طريق نشر فنونها وثقافاتها وحركة التواصل فيما بينها. في شهر أغسطس 1962 نقل الأستاذ حسين محمد أحمد شرفي للعمل بجنوب السودان وتم تعيينه نائباً للمحافظ بمديرية واو. فانخرط بين طبقات المجتمع وأصبحت له علاقة مميزة بالإخوة الجنوبيين وكان يمني نفسه بالبقاء في الجنوب الى نهاية خدمته فالعمل هناك ممتع وجميل فعندما تمت ترقيته للرتبة الأعلى كان من الطبيعي نقله من الجنوب الى موقع آخر، فقامت ثورة أكتوبر 1964 لتضع حداً فاصلاً لفترة الحكم العسكري، فجاء عهد الديمقراطية، وهنا طالب الجنوبيون ببقائه بينهم ويشهد حركة أنانيا التي لم يتوقف نشاطها حتى بعد أكتوبر ففي رأيه أن الحركة لم تكن لها أهداف سياسية في الوضع الديمقراطي وانما تمثل نشاطها في السلب والنهب مما جعل المواطن الجنوبي المتسامح في حيرة من أمره، وقد نادى الإداري شرفي خلال البرنامج الذي أذيع في الستينيات بضرورة وحدة التراب السوداني التي يؤمن بها كل سوداني غيور فكأني به كأن يقرأ بين السطور من قبل خمسين عاماً، رغبة أهل السودان الملحة الآن وجنوحهم نحو الوحدة والعمل على إقرارها بتماسك أجزاء الوطن وعدم التفريط في تجزئة أطرافه. رحم الله الإذاعي حسن محمد علي الذي رفد مكتبة الاذاعة بعدد من البرامج الناجحة التي تؤرخ لتاريخنا الثقافي، والتحية لأسرة الإداري الفذ حسين محمد أحمد شرفي، ابن الشمال الأصيل الذي استهواه الجنوب وملك شغاف قلبه بجماله الآسر وانسانه البديع وما أحوجنا حقيقة للوقوف على أبعاد تجربة حسين محمد أحمد شرفي الاداري القدير فهل يستجيب الأستاذ الكابلي وغيره من المثقفين بالكتابة عنه لكشف بعض الجوانب عن حياته وتجربته الثرة التي تصلح نموذجاً لهذا الجيل ولما يتلوه من أجيال..