«أبا جعفر لست بالمنصف.. ومثلك إن قال قولاً يفي.. فإن أن أنجزت لي ما وعدت.. وإلا هجيت وأدخلت في.. وقد علم الناس ما بعد في.. فغطي الحديث ولا تكشف»، لولا أنني أعرف صاحب هذه الأبيات وسياق عصره، لقلت إنها لأحد إسلاميي بلادي المأخوذين عن دولة المشروع، بمشروع الدولة، والمنفقون مما يحبون جهداً وعرقاً مبذولاً ودماً طاهراً مراقاً، فدىً لمجد الدين وإن أقيم على رؤوس أشهاد الموتى عوض الأحياء كما يشير الشعار الشهير.. «فليعد للدين مجده أو ترق كل الدماء».. بعضهم كان يقول خفية لقد تعلمنا جيداً كيف نموت في سبيل الله، ولم نتعلم كيف نحيا في سبيله مع أننا نحفظ ونستظهر قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَüü لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» فكان تقديم الحياة على الممات على سبيل التفضيل لا الترتيب، كما كان تفضيل الصلاة على النسك، وفق اقتضاء التقديم في سياق الآي الكريم.. لو أننا أدركنا ظلال المعنى في هذا السياق المركزي لما فضلنا بناء الجهاد على جهاد البناء، وهما وجهان لعملة واحدة ورابحة.. فهيعة هجليج بعد طول هجود، وإن أشارت إلى دلائل عافية على مستوى الوطن، فإنها تشير إلى أعراض مرض عضال على مستوى الوطني.. أعراض تبين أول نتائج فحصها في محاص الواقع الجديد، أن استثنائية شباب الإسلاميين، لا تظهر إلا في الظروف الإستثنائية، وأن تفردهم رهين بتمرد غيرهم.. بيد أنهم في الظروف العادية يتوزعون بين عام جعلوه خاصاً، وخاص حولوه إلى عام، فهم غرقى في مشاغلهم الشاغرة وشواغرهم الشاغلة، وسبب ذلك أنهم جاءوا يمتطون نوايا صادقة ولا مشاحة، فالنوايا مطايا إن كانت تحمل في طياتها فرداً لا جماعة.. ما الذي دفعني إلى هذاالاستطراد في غير المراد، ربما هو هوى مكبوت اتخذ مساراً مرموزاً ساعة الإفصاح، جاء كما يقال القول خاص في العلم هذا القول خاص، أو كما قال أحدهم «الجرح ارتد بينا لزمان الآهة تاني».. ولا غرابة فأزماتنا المزمنة باتت أكبر من قدرة الحرف على البوح.. وحتى لا يساء تفسير ما أرمي إليه في زمن حل فيه الإنذار محل الإعذار، أقول إن الذات الإسلامية آثرت مؤخراً- وفي أعقاب غزوة هجليج المباركة- أن تمارس إسقاطاً نفسياً حاداً نفست فيه عن ركام مآخذها على ما آلت إليه الأوضاع، إلى ما قاله إبراهيم أحمد عمر بعد أكثر من عقدين في مؤتمرات الوطني الأخيرة «نحن قدناها ولا جطناها؟» السؤال نفسه كان يعبر عن حالة نفسية حميمة لا حالة ذهنية عميقة!! .. شأنه شأن كل الإنتقادات والمراجعات التي انتظمت الساحة الإسلامية مؤخراً، فقد بدت أشبه بالمرثيات وإرسال الآهات، كما ظللنا نقول في سلسلة مقالاتنا عن نقد «النقد التنظيمي»، الذي بينا فيها أكثر من مرة أنها- وإن اكتست شكل الانتقاد خوفاً على الذات- فإن جوهرها يحمل خصائص الإنتقام غضباً على الذات، أو كما قال أحد الكبار في مجلس خاص يشهّر بدعاة الإصلاح «هؤلاء ناقمون وليس ناقدون».. فما أحقر مفهوم النقد عند بعضهم حين يصبح ملجأ لتصفية الحسابات.. يؤكد ما ذهبنا إليه أن السواد الأعظم من دعاة النقد والإصلاح داخل حوزة التنظيم أو خارجه، كان يشغل منصباً ما وخرج عنه إثر اختلاف في وجهات النظر، أو تقاطعات المصالح، وتوزيع القوى.. يستوي هذا الأمر على مستوى الأفراد والتيارات.. فالمؤتمر الشعبي نفسه الذي طفق يؤسس شرعيته الجديدة على أنقاض نقض غزله من بعد قوة إنكاثاً بوصفه تياراً داعياً للحريات واللامركزية والتوزيع العادل للسلطات والثروات.. نسي أو تناسى أن البلاد في عهده كانت ترتكس إلى حمأة شديدة من انعدام الحريات والعسف والمعالجات الأمنية الإستثنائية.. ويكفي أن إمام الحريات و أستاذ القانون الدستوري وحامل شهادته العليا فيه من جامعة السربون، حُكمت البلاد في عهده بقانون القوة لا قوة القانون.. هذه الحقيقة الدامغة لن تمحوها من الأدمغة كتابات الشيخ في عبرة المسير ولا كتابات المحبوب، ما بين دائرة الضوء وخيوط الظلام.. وعلى سبيل الأفراد تحتشد جيوش جرارة ممن انتقد بعد أن طرد من رحمة السلطة.. فالأفندي لم يمارس النقد إلا بعد أن غادر دائرة الأفندية إلى فضاء الأكاديمية في وستمنستر.. وفلان وفلان.. وأخيراً قوش الذي كان يعتلي أريكة أخطر أجهزة الجهاز التنفيذي، آثر أن يصيبه من ناصية موقعه الأصيل أو البديل- لا فرق- حين صوّب نيرانه الصديقة على إمبراطورية السدود واتهامها في أعز ما تملك، وهي قيمتها المضافة للاقتصاد والتنمية.. قد يكون النقد صائباً، لكن أخشى ألا يكون صادقاً سيما أن دلائل خشيتي موفورة ومحتشدة.. فقديماً قيل لأحد السلف: ما يزهدك في الإمارة.. قال «حلو رضاعها ومر فطامها».. والمعنى واضح وصريح كما يقول البروف عبدالله الطيب.. ولنا عودة