نسميه جميعاً باسم (أمير الشهداء) وإن كانت الأوراق الثبوتية الرسمية تسميه (الزبير محمد صالح)، وإحدى شاعراتنا المجيدات وصفته بالنخلة، ولعل مرد ذلك إلى سموق قامته الفارعة (خُلقاً وخَلقاً) بضم الخاء في الأولى وفتحها في الثانية، واستبعد تماماً أن تكون قد ربطت وصفها له بالمكان! ووصف النخلة له في اعتقادي، أقصر من سموق قامته (على توفيق الوصف)، واستطراداً أقول إن البلاد وهي تستشرف فجر الاستقلال كانت تبحث عن الرموز التي تدل عليها، فاقترح بعضهم أن يكون شعار الدولة الوليدة هو شجرة (الدوم) لأنها وهي في (علاها الفوق) ترمي بالثمار لمن هو تحتها، وبالظل لمن هو بعيد عنها، وربما فات على صاحب الاقتراح أن أطول شجرة مثمرة في بلادنا هي شجرة (الدليب)، ولذلك يطيب لي أن أصفها بأمير الشهداء الزبير محمد صالح، إذ أنه كان ثماراً وظلاً للكثيرين من شعبنا، أفراداً ومجموعات! يقول المفكر الإنساني وليم شيرر (من الصعوبة في هذه الأيام الشديدة الضوضاء، الكثيرة الاضطراب والقلق، المحطمة للأعصاب، أن تظفر براحة العقل لحظة لكي نفحص ونتأمل الأشياء التي نؤمن بها، والواقع أن الوقت والفرصة المتاحين لمثل هذا التفكير ضئيلان جداً، وبدونهما لا طاقة لهما بوجودنا الإنساني). ألا ينطبق وصف أحوال تلك الأيام في عهد شيرر مع أحوال الأيام التي نعيشها الآن؟.. ضوضاء.. اضطراب.. قلق.. الخ.. على أن مثل هذه الأحوال هي التي تنجب العظماء، ودونكم التاريخ العام للبشرية، ولعل مثل هذه الأحوال (المحطمة للأعصاب) هي التي أنجبت النخلة.. الدومة.. الدليبة.. الزبير! كان يحمل بيده مشعلاً للنور والسلام، وبيده الأخرى يحمل ما يصون الأرض والعرض، فتراه وسط جنود الوطن عند الملمات أو في الأفراح يهلل ويكبر و(يجلل) و(يكورك) بحماس وانفعال وهو يردد بصوته العالي سودانا فوق سودان فوق.. فوق .. فوق وتكاد يده تلامس عنان السماء، ثم يجلس مع جنوده وأهله على الغبراء ليتناول معهم وجبة (دسمة) من شوربة العدس بفتات الخبز.. والماء القراح! ولعل الأخير من حفير أو (عِد)، تسبح فيه بطمأنينة بعض كائنات الله الحية! وتراه يجوب الغابات والأدغال وهو يحمل غصناً من الزيتون، باحثاً عن المتمردين على الدولة، وعندما يجد ثلة منهم يقفون له احتراماً، فهم يعرفون سجاياه وحسب نيته وصدقه تماماً، فيحادثهم حديث السلام والأمان، ثم يفترش الأرض معهم ليتناول معهم وجبة (دسمة) من (بني كربو) بإدام (سمن المهدي)، فإن وجد هناك (شرموط) فذلك الفضل من الله، وبهذه البساطة والوطنية استطاع إنجاح برنامج السلام من الداخل، وكان من ثمار ذلك ميثاق الخرطوم للسلام 1997م، واتفاقية الخرطوم للسلام 1998م، ودستور 1998م، وانحسار كبير في حركة التمرد التي انحصر نشاطها آنذاك في الشريط الحدودي مع كينيا ويوغندا، بل ومهد هذا الأمر الطريق لاتفاقية السلام الشامل عام 2005م. ولم يقتصر أمير الشهداء على مجال السلام، بل كان له نشاط جم ومثمر في معظم المجالات سواء في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو مجالات الخدمات المتنوعة، ولذلك بكاه أهل السودان جميعاً عندما رحل وهو منخرط في أداء الواجبات التي أناط بها نفسه، فقد كان الزبير هو ماء الحياة للكثير من الأعشاب العطشى الناشفة، ويصدق عليه تماماً قول شاعرنا البدوي: أب عراق فتق قرن المبادر شره والباشندي عمت مهششيب الدره ونختتم مناجاتنا هذي في حضرة أمير الشهداء سيدي الزبير محمد صالح بقوله تعالى في سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم: (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) .. صدق الله العظيم.