اشتقت ل«ضانايه» ذلك الذي كان في اعتقادي رمز النقاء والبراءة في ذلك الحي الذي كنت أقطنه. افتقدت شوارعه الهادئة والضاجة.. افتقدت وجوه النساء اللواتي يعلنَّ أن الشقاء في خطر، ووجوه الشيوخ الذين ضاقت بهم المنازل فتفيأوا ضل الضحى وأصبحوا تسلية للمارة بينما يتسلون هم أيضاً بالمارة. «ضانايه» كان على مشارف الأربعين.. يعمل مراسلة بمدرسة «الحكمة»، يسكن في منزل ورثه مع عدة إخوة وأخوات من أمهم.. التي كانت تعمل «فراشة» في ذات المدرسة.. فمنحوها قطعة أرض تضامناً مع كدحها.. وبنته بعائد بيع حاجيات بسيطة لشُفَّع المدرسة.. كان نصيبه حجرة مع راكوبة صنعها بالتلتلة وبعض «القنا» وبروش قديمة مع شوالات متفرقة. تزوج لا أدري كيف، لكنها على كل حال إنسانة تشبهه.. ما رأيتها وما سمعت أن أحداً رأها، ربما الجيران الأخص فقط.. ما رأيته متبرماً.. بل يطفح دائماً بالسعادة.. أتلقف عباراته التي تملأني بالحماس حسب وقت مصادفتي له، ثم يذيع علي نشرة أخباره البسيطة السعيدة: تعرف يا معلم ربك ما كريم «عجيب» سيد الدكان أداني كيسين عيش بايتات هدية.. قطعتهن ليك يا معلم في صحن كبير.. فيهو يا معلم موية فول.. وموية جبنة.. وبصل.. وطماطم.. ودكوة شفت النعمة دي.. ضربناها مع الأولاد.. حامدين شاكرين. ويقبل يده ظاهراً وباطناً.. هذا وقت الإفطار. وقت الغداء يبثني خبر العدس والموز اللذَيْن اشتراهما : ما صارفين يا معلم.. قلنا نفرجا شوية عدس وموز.. عليك الله شفت النعمة دي. يسامرني وهو لا يكاد يعرفني.. مرات يخاطبني بالمعلم ومرات بالدكتور.. ومرات بالوجيه.. ومرات بالأستاذ.. مرة شاهدني في التلفزيون.. انتظرني اليوم الثاني بفارغ الصبر وعندما رآني هلل وأخذ يصيح، نادى أولاده الثلاثة.. أكبرهم في الرابعة.. يرتدي فنلة تغطي نصف بطنه المنتفخة.. يسيل أنفه ولا يحتاج إلى كبحه.. وكل مرة يلعق بلسانه المادة السائلة فتزجره على ذلك فيقول لك «ضانايه» ما بتجيهو حاجة ما متعود. . أوسطهم فتاة تركت شعرها الجميل دون تمشيط فبدأ منكوشاً مجعداً بسبب الأتربة المخلوطة بالدهن الرخيص الذي تستخدمه لماماً.. الأصغر كان ولداً عادياً.. لا يرتدي سوى «حجاب» أو تعويذه معلقة على رقبته لتحرسه من العين والحسد. طلب من أولاده أن يسلموا على عمهم الذي ظهر في التلفزيون: شفتك في تلفزيون المدرسة قعدت أكورك.. والله ده صاحبي.. والله ده صاحبي. ما صدقوني سألوني: أها اسمو منو.. أحرجوني.. هو أنت اسمك منو؟ صادفته ذات مساء متهللاً.. كان في ندوة في المدرسة : مرطبات يا معلم.. الباقي قالوا لي شيلو.. برتكان يا معلم.. تفاح يا معلم.. موز يا معلم.. باسطة يا معلم..! ما شاء الله. أقول له وأمضي، بينما صوته يلاحقني بالعبارات : بيتزا يا معلم.. بسكويت يا معلم. وكلما ابتعد يعلو صوته : حلاوة يا معلم.. بارد يا معلم. لا آراه يتبرم أو يشكو، مرة اجترأت وسألته: انت ما بتزعل لما يقولو ليك «ضانايه»؟ يصفعني متسائلاً : ضانايه يعني شنو؟ فكرت ثم أقول : نعجة..! فيقول: ما كعب.. النعجة ما خلقا الله، النعجة ما كعبه. مرة كدت أبكي.. قبل العيد تسامرت معه.. قال: إن همه أن يتحصل على «طمناطشر» جنيه بس..! سألته : لماذا؟ قال : أكسي الأولاد.. شبط بي ألفين وردا بي ألفين.. وقميص بي ألفين للولدين وفستان بي ستة للبت..! قلت له : إذن أبشر.. هاك هذه ثلاثين جنيه..! فقال ببساطة : أسوي بيها شنو.. كفاي عشرين طيب..! قلت له : شيل القروش بتحتاج ليها..! فقال لي : لا والله بتتعبني..! تساءلت في بله : بتتعبك؟ فقال: جداً والله.