همس زميل المهنة الذى يجاورني ونحن ضمن الحضور في الندوة العلمية التى أقامها الاتحاد العام للإطباء البيطريين بداره بالعمارات الشهر الماضي، وقال: لو أن دار البياطرة علمت بمن زارها اليوم لفرحت وسُرت، ولكان لسان حالها يقول: أهلاً وسهلاً ... أهل الجود والكرم. كان في مقدمة المشاركين في ندوة «الٌرحْل... بين الاستقرار والترحال» سعادة الدكتور الصادق الهادى المهدى الرجل الذي تجده دائم الابتسامة ويقابلك هاشاً باشاً كأنه يعرفك من زمنٍ بعيد.. من سلالة آل المهدى حفظ لهم التاريخ شعراً ونثراً، بطولات ومواقف للرجال منهم والنساء، وحالهم كحال الشاعر حين أنشد: أناس إذا ماالدهر أظلم وجهه فأيديهم بيض وأوجههم زهر يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ببذل أكف دونها المزن والبحر سموا في المعالي رتبةً فوق رتبةٍ أحلتهم حيث الغمائم والنسرأضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت لنورهم الشمس المنيرة والبدر فلو لامس لهم الصخر الأصم أكفهم لفضت ينابيع الندى ذلك الصخر حضور السيد الدكتور الصادق الهادي المهدي مستشار السيد رئيس الجمهورية، واستجابته الكريمة أكد اهتمامه الشخصي واهتمام الدولة بقضية الرُحَّل، والذين يمثلون أكثر من 8% من سكان السودان، ويساهمون بقدر كبير في اقتصاد البلاد، بما يملكون من ثروة حيوانية، وبما يتمتعون به من صفات الصبر وقوة التحمل، التي منحها الله عز وجل لهم.. قوم بمختلف الأعمار نساء وأطفالا، يقاومون ظروف حياة قاسية، أرض جدباء، وسماء صافية، لارعد فيها ولا برق، يتحملون أكثر مما تتحمل حيواناتهم في سبيل المحافظة عليها ويتنقلون بمسارات ومراحيل محددة بين المصايف والمخارف، وكما ترحالهم بلا حدود قسوة الحياة عليهم بلا حدود. السيد الدكتور يعلم تماماً أن هؤلاء الرعاة لا تظلهم مظلة التأمين الصحي، ولا تضمنهم شركة شيكان ولا تؤمن لهم، رغم أنها تؤمْن على حيواناتهم، كما لاترعاهم مؤسسات التأمين المميز والخاص.. فالمريض منهم يتحمل لدغات انثى الانفوليس، ولدغات الثعابين بنفس الامكانات، فتزداد عليهم قسوة الحياة ويقتربون من الموت، ليس بسبب الجوع أوسوء التغذية، ولكن لضعف الخدمات الصحية، فصارت الحيوانات التي يرعوها هي مظلة التأمين، وهي شهادة شهامة، وهي الملاذ وهي «الكاش» الذى تبحث عنة شركات التأمين، فمتى تفكر مؤسسات التأمين الصحي في أن تظل الرعاة بمظلتها قبل أن يأتي يوما ً لا ظل فية إلا مظلة الخالق؟. أطفال الرعاة لهم أحلامهم الخاصة، كما أطفال فلسطين طفولتهم غير طفولة أبناء العرب في الخليج العربي، أطفال فلسطين يعلمون أن كل بترول العرب لا يوقد شمعة في غزة، تهوى الجبال وتنحني... وجباههم لا تنحني... كذلك الحال، أطفال الرعاة ثابتين، لهم عزائم صلبة كالحديد، لا وسائد ولا فراش وثير تحتهم أو فوقهم، فكيف تكون أحلامهم.. أطفال الرعاة يعيشون داخل أرحام أمهاتهم كما يعيش أبناء المدن، تحيط بهم الظلمات الثلاث، لا فرق بين الأجنة وهي مستقرة تتقلب برحمة ربها في مستودع آمن، وتختلف الحياة عند حدوث حالات الطلق الأولى. أطفال الرعاة اتذ كر منهم الطالبة «زهرة» التي أكدت أن بنات الرحل متفوقات وعاشقات للعلم والتعلم، لم يعد هناك خوف على تعلم البنات، ولم تعد مهنة الرعي، وجمع الحطب، وشد الحبال على الأوتاد هي حرفتهن فقط. نفضن غبار الفيافي، وأشعلن نور المعرفة، لتضيء حياة الأسرة.. لم تعد ثقافة زهرة وصاحباتها محصورة في البخسة، والسعن، ودونكي دريسة ومرحال طوطاح، ولم يعد «الهودج» هو مبتغاها وخاتمتها... بل تفتحت زهرة على إيقاع المناهج الدراسية، وعلى أساس تعليمي لجيل جديد، ستمزج فيه تاريخها مع المنهج الدراسي، لتعرف كم هي وبنات جنسها قد خسرن من عمرهن، وهن بعيدات عن التعليم.. إن المسؤولية كبيرة على وزارة التربية والتعليم، وقد عقدت مؤتمر تعليم الرُحَّل وناقشت فيه سياسة الدولة نحو المدارس المتنقلة، وأستاذ الفصل والأستاذ الظاعن.. بالله عليك أنتم أيضاً انفضوا الغبار عن مؤتمرات الرحل القومية من رقم واحد الى رقم سبعة، ليستفيد الرعاة من التوصيات فهم في حاجة لها أكثر ممن كتبوها.. فتعليم الرُحَّل قديم منذ أن أسس الأستاذ حسن نجيلة في مناطق الرُحَّل بالكبابيش أول مدرسة متحركة عام 1932م.. ثم انداحت المدارس في مواقع الرحل شبه المستقرة نعود لقائد الندوة وزينة الحضور السيد الدكتور الصادق الهادي المهدي مستشار السيد رئيس الجمهورية، الرجل الطبيب وصديق أصحاب القلوب المريضة، والمتعلم من الجزيرة أرض المحنة، ورئيس حزب الأمة القيادة الجماعية، كان وجوده اثراءً للنقاش ومتابعته الدقيقة لستة أوراق عمل قدمها خبراء سودانيون في مجالات الرعي والرعاة وحياتهم ومستقبلهم، كانت بمثابة الطريق الممهد كاسبوع المرور العربي، وتجعلنا نتساءل معهم... الى متى ؟ لم تعد قضية الرُحّل واستقرارهم وتوفير الخدمات لهم- سيدى المستشار- بالقضية التى تأخذ وقتاً طويلاً وعريضاً في التدبير والتفكير، وإمعان النظر أو طرح البدائل للحلول، والأمر لا يحتاج الى وضع خارطة طريق، كما لايحتاج الى توفير أموال من وزارة المالية والاقتصاد الوطني.. وكذلك لا يحتاج الى تشريع من المجلس الوطني، أو المجلس التشريعي،الولائي، هؤلاء الرُحَّل لا تعنيهم حكومة حزبية ائتلافية أو وطنية، هم بأنفسهم لا يحتاجون الى تمثيل في الحكومة أو الاتحاد القومي لنقابات عمال السودان، لا يعرفون الاتحاد العام للرعاة، ولا اتحاد الهجن السوداني، ولكنهم سيدى المستشار يعرفون الطبيب البيطري، ويحسون أنه رفيقهم، فنارهم واحدة، ومعهم أين ماوضعوا «ضنب بهيمتهم».. لقد أفرزت المستجدات على الساحة السياسية واقعاً مختلفاً نحتاج الى جهد كبير لتغيير الواقع المائل . يحتاج الرُحَّل من قبائل الانقسنا، والفلاته، والعرب، والرزيقات، والتعايشة والمعاليا، الحوازمة، وكنانة، ورفاعة، والحسانية وأم بررو... الى استراتيجية حقيقية تستهدف دراسة تفاصيل حياتهم اليومية، وكما قال الدكتور فيصل حسن وزير الثروة الحيوانية، والسمكية، والمراعي، إن قضية الرحل هي «قضية عدالة اجتماعية» ... الى متى سيدي المستشار؟!!