ü عندما فرغت من قراءة كتاب الدكتور حيدر إبراهيم علي، «مراجعات الإسلاميين السودانيين/كسب الدنيا وخسارة الدين» لم أجد بيني وبين نفسي تعليقاً يناسب مضمون الكتاب ومحتواه أكثر من عنوان هذه «الإضاءة». فمن الواضح أن الكاتب قد كرس وقتاً كبيراً وبذل جهداً ودأباً لا يستهان به في سبيل رصد المراجعات التي عكف عليها عدد كبير من كوادر ونشطاء ومُفكري الحركة الإسلامية الحديثة عموماً وفي السودان بخاصة، كما قام في كثير من فصول الكتاب ومقاطعه بتسليط أضواء النقد الموضوعي لمقولاتهم ومواقفهم الفكرية، لكنه -ومن أسف- أهدر رصانة البحث ولا قطعيته ومساحة التسامح فيه مع فكر الآخر، التي تميز روح «الباحث الحر» وحرية البحث العلمي بجملة من المواقف السياسية الغاضبة التي تناسب منشوراً سياسياً أو مدونة معارضة على الانترنت أو صحيفة حزبية يومية أكثر من مبحث على هذه الدرجة من العلمية والأكاديمية، دون أن يعني ذلك -بحال من الأحوال-تجريم تلك المواقف الغاضبة والمعارضة أو رفض الإعلان عنها من حيث المبدأ، وإنما تنحصر الملاحظة الأساسية في عدم الخلط بين ما هو نقدٌ علمي ملتزم بجملة من الضوابط الصارمة والموضوعية -رصداً وتحليلاً ولغةً واستنتاجاً- وبين النقد السياسي -أو «السياسوي» بلغة د. حيدر- وهو خلط يفسد -كما أرى- العمل في الاتجاهين أو الغرضين -العلمي والسياسي- على حد سواء. ü يتجلى هذا الخلط بين «العلمي» و«السياسي» في عنوان الكتاب المكون من مقطعين الأول: «مراجعات الإسلاميين السودانيين» والمقطع الثاني الهاتف بالإدانة: «كسب الدنيا وخسارة الدين»، فيبدو لمن يقف مروراً على العنوان دون أن يقرأ الكتاب أن الإدانة التي يحملها المقطع الثاني تنصرف بالضرورة إلى فكرة «المراجعات ذاتها التي أقدم عليها بعض الإسلاميين، أما لمن يقرأ الكتاب سيجد أن الكاتب في كثير من مناقشاته لما أتى به هؤلاء المراجعون، يستفيد من الإدانات والاعترافات التي يسطرونها نقداً لتجربتهم أو تجارب تنظيمهم ويوظفها للهجوم على النظام القائم أو على مجمل منظومة الإسلام السياسي، وهذا حقه، لكنك وأنت تقرأ لا تستبين على وجه اليقين أن «كسب الدنيا وخسارة الآخرة» توصيفاً للنظام ولنهج الإسلام السياسي عموماً أو تأنيباً وإدانة ل«مراجعات الإسلاميين السودانيين». وهنا يمكن التنبيه أو الانتباه لسؤال مهم: لماذا لم يرَ د.حيدر في أصحاب «المراجعات»، وهؤلاء من الإسلاميين الذين خرج جلهم على الحركة أو على النظام أو نأوا بأنفسهم وجلسوا على رصيف الأحداث كمراقبين، لماذا لم يرَ في مواقفهم، والإفصاح كتابة وقولاً عن تلك المواقف، رصيداً يصب في صالح الحراك الديمقراطي وحق الرأي الآخر في التعبير عن ذاته، وليس بحثاً عن «مكاسب دنيوية» أو «خسارة للدين» أو المصداقية، أو يرى في مفارقتهم لمواقعهم القديمة إضافة لزخم التحول الديمقراطي المنشود أو أثراً من آثار ذلك التحول الماضية والحتمية. ü فمنذ المقدمة يدخل د.حيدر إبراهيم مدخلاً «خشناً» على من يريد مناقشة طروحاتهم الفكرية المراجعة لنهج «الحركة» أو «الجماعة» أو «النظام»، ويرى فيهم شخوصاً مجسدة للمأساة كما في «أبطال روايات شكسبير» ويعلن عن تعاطفه الوجداني والإنساني معهم، حيث لا مجال للشماتة -كما يقول- على منكسر ومهزوم. ويصف مراجعتهم ونقدهم، بعد ربط وثيق لا فكاك منه بينهم وبين «إخوانهم السابقين» الذين لا يزالون في مواقع السلطة، يصف مراجعتهم ونقدهم بأنه أقرب إلى «المراثي والمناحات» وأن الإهداءات في بعض كتبهم هي بمثابة «بكاء حزين على الماضي وندم عقيم على اللبن المسكوب»، وفي ذلك «انطباعية» لا تليق بباحث مدقق ودؤوب في قامة د.حيدر إبراهيم، فالإهداءات والمقدمات العجلى ليست كافية على الحكم على أي كتاب أو مبحث، وإلا كنا غادرنا كتابك هذا الذي نحن بصدد الإضاءة على بعض جوانبه فور قراءة هذه المقدمة: فكثير من الإسلاميين الذين خرجوا على النظام أو عارضوه أو نأوا بأنفسهم قدموا أفكاراً ورؤى تستحق النقاش بل والحوار على قاعدة «المشترك» من الرؤى الديمقراطية ومباديء الحرية المستوعبة للتعددية الفكرية والثقافية والمعتقدية التي تميز بلداننا العربية والإسلامية بخاصة دون بلاد الدنيا كلها، والتي يشكل «الدين الإسلامي» فيها مكوناً لا يمكن لأي باحث أو مفكر أو سياسي جاد تجاهل أثره ودوره في مجمل حركة الحياة، وإلا وجد نفسه خارج حركة التاريخ ومنفصلاً عن الواقع. ü فعوضاً عن الملامة والتثريب على هؤلاء المراجعين، كان يمكن لدكتور حيدر أن يأخذ منحىً إيجابياً، يقرب ولا يبعد، يستقبل ولا يطرد، يعضد ولا يضعف هؤلاء «المراجعين» على قاعدة الوسع الفكري والسياسي القائلة ب«التحالف مع كل من يمكن التحالف معه» وليس بوضعهم في مَزْنَق: كل من ليس معي فهو ضدي!! نواصل غداً إن شاء الله