أزعم أنني قاريء ربما يوصف بالجيد إذا كان مقيمّي منصفاً.. وجرياً على القراءة تنامت لي ذائقة من الشعر والنثر والرواية واللا دكايا وكل قراع الخطوب، بدأت هذه العادة باكراً في الربع الأخير من الستينيات أيام كانت مكتبات السودان أوسع من خطوة دار الساقي وأكثر نشراً للكتاب والمعرفة من كل دور اليوم.. كانت مكتبة النهضة والآداب والدار السودانية ومروي التي ما زالت تقاوم واسترفدت تلك العادة من الستينيات حتى العقد الأول من الألفية الثالثة وما زلت. قرأت البليغ اللامع وأبحرت في كل موجة حملت أنواع المغامرات اللغوية.. وقرأت المترجمات من بدائع لوركا وتوهجات لويس أراغون وثوريات بابلو نيرودا الناصعة وقرأت زوربا وكل ما ترجمه سهيل إدريس لهارسيل بروست وكذلك قرأت أعمالاً هابطة ومتسفلة ودنيئة وركيكة تفعل باللغة ما لا تفعله الماء برحم الصحارى وتصيبك بالغثيان والحموضة والقرف لكنني أجزم أنني ومنذ الستينيات حين كنا نقرأ للمنفلوطي وجبران ونشاهد أفلام جانوار وشنطة حمزة وأبي فوق الشجرة.. إنني لم أقرأ بياناً ركيكاً مثلما قرأت قبل أسبوع بياناً مدفوع الثمن صدر عن اتحاد المحامين الديمقراطيين استباح كاتبه اللغة وسباها وهشم كل قواعدها وحولها من أنثى خصوب وولود وملهمة لجارية في طاعته يأمرها بالامتثال لركاكته بقوة القانون!! طالعت البيان مرات ومرات ليس بغرض الامتاع بالطبع ولكن للتأكد من أن الركاكة بلغت هذه المنزلة وأصبحت ذات رفعه وذات روافع وتحولت من مواخير الأسافل لمقام النخل الطويل العالي.. ركاكة استلهمت كل الخطب التقريرية التي كان يستخدمها زعماء العشائر في الأربعينات أيام الجمعية التشريعية التي تبدأ «ببني وطني» وتنتهي «بلا نامت أعين الجبناء» بما أكد لي أن صائغ البيان لم تتعدَ ثقافته اللغوية ما حصده لغوياً بصعوبة من «هاشم في العيد».. وأجزم أنه لم يتماهى مع نص «الدجاجة الصغيرة الحمراء» لأنه نص ينبني على الفنتازيا. الأمر المهم أن من صاغ البيان هو بالضرورة قانوني يترافع في المحاكم فهل يستعين بمترجم من اللغة العربية إلى اللغة العربية كي يفهم القاضي مقاصده ويطمئن موكله إلى أي مشنقة سيمضي؟!