ونبدأ التشريح.. والخوض في المياه.. والتوغل في حقل العشر سنوات الأولى من عمر الانقاذ الذي أصبح اليوم يبلغ ثلاث وعشرين سنةً وتزيد.. ولا نعرف متى ينتهي.. وحتى الشيطان الرجيم ذاته لا ولن يعرف متى تخرج بارجة أو سفينة.. أو مركب الانقاذ من الخدمة.. ولأنني وعدت الأحبة القراء.. بأن أكون عادلاً ومنصفاً.. أقول إن «ناس» الاسلام السياسي في كل أرجاء وأنحاء الأرض.. يحملون أشواقاً هائلة وأمنيات شاسعة للحكم.. حتى يحكموا شرع الله.. وهنا في السودان كان الإخوان المسلمين هم الذين يمثلون الاسلام السياسي.. وهكذا جاء الاسلاميون من أهل الانقاذ إلى الحكم بدعاوى كبيرة ووصفات خلابة.. وطموح يعادل البحار والمحيطات اتساعاً.. وكما يقول الأستاذ الراحل الفخيم الخاتم عدلان فقد قال الاسلاميون وهم في قمة الفرح المعربد بالسلطة وهي بين أيديهم كاملة وادعة.. زعموا إنهم لن يناموا إذا عثرت بغلة في طمبرة أو طويلة أو حلفا أو حلايب.. وفي أسى وحزن.. ها هي طمبرة.. خارج سلطان وسلطات الوطن.. وها هي مدن تتأرجح بين البقاء في الوطن.. أو القفز من مركبة إلى أسطول آخر.. أو بارجة عدوة أو حتى صديقة.. إذًا نقول.. إن الانقاذ جاءت في الثلاثين من يونيو وكأنها مثل الاسلاميين الذين يعلنون عن برنامجهم للحكم مكوناً فقط من كلمتين اثنتين..(الاسلام هوالحل).. وكأن الإنقاذ أتت لحكم البلاد وهي لا تحمل برنامجاً تفصيلياً لتجابه به كل معضلات ومشاكل وأشواك الحكم لذا كانت السنوات الأولى من الحكم هو فرض هيبة وسيطرة الدَّولة بالقوة الرَّادعة والتي تجاوزت كل الحدود.. وصادمت حتى مباديء الاسلام العادلة الرحيمة.. وحتى لا نغرق أنفسنا في التفاصيل.. وحتى لا نستدعي ذكرى تلك الأيام المخيفة المفزعة.. وحتى لا نعيد لألستنا ذاك الطعم الُمر.. والذي هو أشد مرارةً من الحنظل.. سنكتفي فقط بالأشياء الكبيرة.. والطموحات التي فاقت كل القدرات والامكانيات فقد ملأ الأحبة في الانقاذ الفضاء بشعارات أثارت الدَّهشة والعجب.. في الناس.. وليت الشعارات تلك كانت خاصةً فقط بالوطن بحدوده وأهله وأرضه.. كانت شعارات حالمة.. تجاوزت كل خطوط الممكن والمعقول.. كان شعراؤهم ومنشدوهم يعلنون للدنيا.. كل الدنيا.. إن أمريكا وروسيا قد دنا عذابهما.. وتمر الأيام وتكر الشهور وتنصرم السنون.. وها هي روسيا هي صمام الأمان والخط الأحمر «للإخوان» والسند الأكبر للانقاذ في مجلس الأمن الدولي.. وها هي أمريكا.. تصبح صديقاً وفياً مخلصاً.. للانقاذ سراً.. والعدو الماكر الاستعماري والكافر علناً.. وهذه العلنية هو خطاب توجهه الحكومة فقط لمواطنيها في الداخل.. رغم إن مواطني الداخل هؤلاء يعلمون إن أمريكا.. قد «هندست» كل اتفاقيات السلام مع الإخوة في الجنوب.. وما زلنا في الجزء الأول من الكتاب.. كتاب الانقاذ.. الذي يفوح برائحة شيخنا.. ويحمل بصمات شيخنا.. رغم إنكار تلميذه المحبوب عبد السلام.. ونجد عذراً شاهقاً وشاسعاً ومنطقياً لهذا الانكار غير النبيل.. فقد كانت العشر سنوات الأولى.. سنوات كالحة.. مفزعة ومخيفة.. كانت قبضة حديدية فولاذية هائلة.. عزَّ فيها التنفس في ذاك الجو الخانق.. وتلك السماء المعتكرة بالغبار.. وصورة أخرى من أحلام وطموح شيخنا.. ذاك الذي كان يحلم بأن يحكم الدولة الاسلامية قاطبة من خلال فكره وكتبه.. بل كانت الأحلام المستحيلة بأن يتم تغيير حتى وجه الدنيا بفكره وأفكاره.. الصورة تحدثنا عن مدى نفوذ الشيخ وقتها.. وتحدثنا عن حلمه المستحيل أيضاً.. وقبل «طبع» الصورة لكم غداً.. نورد ملاحظة تجلي بجلاء أن الرجل كان رقماً أو قضيب جذب تدور حوله الأحداث.. كان ذلك عندما تدافع وتوافد على السودان.. كل المناهضين لحكوماتهم وبعضهم مناهضين حتى لشعوبهم تحت مظلة «المؤتمر الشعبي الاسلامي» كان التلفزيون السوداني ينقل ليلة من تلك الليالي.. كنا نشاهد ذاك الحراك من خلال الشاشة وداخل حجرات منازلنا.. كان السيد رئيس الجمهورية حضوراً في ذاك المشهد.. وكذلك شيخنا.. فإذا برئيس أحد الوفود يقول وفي «قلة أدب» نشكر شعب السودان وحكومة السودان وعلى رأسها «شيخنا» وكدت أحطم التلفزيون.