غادرتُ «الخرطوم» على متن طائرة الخطوط الجوية الأثيوبية مساء الأحد الماضي متوجهاً إلى «أديس أبابا» تلبية لدعوة كريمة تلقيتها من اللجنة الاقتصادية الأفريقية بالأممالمتحدة المعروفة اختصاراً بال(ECA) - إي سي إيه - للمشاركة في أعمال ملتقى التجارة الأفريقي الثاني، الممتد من الرابع والعشرين من سبتمبر وحتى السادس والعشرين منه بمشاركة كل من الاتحاد الأفريقي ومركز السياسات التجارية الأفريقي وبنك التنمية الأفريقي، وكان قد تم إخطاري من قبل لجان الاتحاد الأفريقي بأنني سأكون الصحفي السوداني الوحيد في هذا الملتقى، وكنتُ قد شاركت في عدة فعاليات أفريقية خاصة بالاتحاد الأفريقي أو منظماته بلغت الثماني فعاليات من قبل. كنتُ أعلم أن موعد عملي ذاك سيتزامن مع المفاوضات بين السودان ودولة جنوب السودان في العاصمة الأثيوبية «أديس أبابا»، لذلك رأيتُ أن أقسم يومي إلى نصفين، الأول مع الاتحاد الأفريقي وأعمال واجتماعات ملتقى التجارة الأفريقي الثاني، والنصف الآخر لمتابعة المفاوضات التي تجرى داخل فندق «شيراتون» أديس أبابا، الذي شهدت قاعاته انعقاد عدة قمم أفريقية، شاركت في تغطية بعضها، آخرها كانت قبل القمة السابقة، وهي آخر قمة شارك فيها رئيس الوزراء الأثيوبي الراحل ميليس زيناوي، وكنت شاهداً على قمة رباعية خاصة بالشأن السوداني ترأسها زيناوي وضمت إلى جانبه الوسيط المشترك «ثامبو أمبيكي» إلى جانب الرئيسين «البشير» و«سلفاكير»، وعندما تم الاتفاق داخل القاعة المغلقة، وخرج المجتمعون إلى تناول الغداء لمواصلة الجلسة وإعلان قمة الاتحاد الأفريقي بالاتفاق الذي تم بين جمهورية السودان، وجمهورية جنوب السودان، فوجيء رئيس القمة الراحل ميليس زيناوي بالرئيس سلفاكير يرفع يده ويعتذر عن التوقيع على أي اتفاق بدعوى أن أعضاء وفده لهم تحفظات على بعض النقاط.. وهكذا أضاع أشقاؤنا في دولة جنوب السودان حوالي الثمانية أشهر تخللتها مواجهات وحرب طاحنة، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام جديد ينظم شكل العلاقة بين البلدين الشقيقين. وصلتُ مساء الأحد إلى العاصمة الأثيوبية الجميلة، فوجدتها غارقة في الأضواء والمطر، ووجدت من ينتظرني في المطار ويستقبلني وزميلي المشارك في أعمال ملتقى التجارة الأفريقي الثاني الدكتور معتصم أحمد عبد المولى، من قسم الاقتصاد في جامعة الجزيرة وأحد الباحثين المعتمدين في مؤسسات الاتحاد الأفريقي.. وقد علمت لاحقاً أن أربعة سودانيين آخرين سيشاركون في الملتقى، اثنان منهم من المؤسسات الحكومية والثالث يمثل البنك الإسلامي في جدة.. أما الرابع فيمثل منظمة الإيقاد. وصلنا إلى فندق «قيون» أحد أبرز المعالم السياحية والفندقية التاريخية في العاصمة «أديس أبابا» وقد لفنا البرد الشديد الذي شعرنا به أكثر من الجو الممطر الذي تعيشه المدينة الضاحكة في وجه كل ما هو صعب ومستحيل. تحايا وسلام وعبارات ترحيب من العاملين بالفندق العريق، فقد اعتدت الإقامة هناك على مدى سنوات عديدة، وقد ظل يحمل كل ملامح العصر الإميراطوري القديم، حدائق غناء مطرزة بالورود الملونة وموشاة بخيوط الماء الجاري، تنبعث منها نغمات الطبيعة الخلابة على خلفية تغريد الطيور وأصوات العنادل الصادحة مع بدايات فجر كل يوم جديد. استسلمت لنوم عميق لأستيقظ عند الخامسة والثلث صباحاً مع آذان الفجر الذي انطلق من مسجد قريب من الفندق الذي نقيم فيه، وبدأت يومي ذاك بذات الطقوس المعتادة، وحرصت على أن أكون مستعداً للمغادرة عند السابعة والنصف صباحاً الموعد المحدد لنا في برنامج العمل لتنطلق بنا حافلة الاتحاد الأفريقي المخصصة للمشاركين المقيمين في فندق قيون لتكون داخل مقر اجتماعات منظمات الأممالمتحدة عند الثامنة لتبدأ إجراءات التسجيل ومن ثم استخراج البطاقات الخاصة بالملتقى، حيث يتوافد المشاركون الذين توزعت إقامتهم على عدد من الفنادق، وقد تجاوز عددهم المائتي مشارك ومشترك في أعمال ملتقى التجارة الأفريقي الثاني. ومنذ بداية أعمال الملتقى وجدتُ أن عقلي أصبح هناك في «الشيراتون» حيث مجريات التفاوض وجولات بين السودان وجنوب السودان، وظللت أتابع عن طريق الاتصالات الهاتفية ما يجري هناك، وقررت أن أكون هناك بعد انقضاء جلسات أعمال اليوم الأول عند السادسة مساء. عندما وصلتُ إلى فندق «الشيراتون» لم أجد صعوبة في التعرف على أمكنة وجود أعضاء الوفدين السودانيين، فقد التقيت أول ما التقيت بالأستاذ عبد السميع دفع الله المستشار بسفارتنا في «أديس أبابا» ووجدتُ الزملاء الأساتذة النور أحمد النور رئيس تحرير صحيفة «الصحافة» الغراء وضياء الدين بلال رئيس تحرير صحيفة «السوداني» الغراء ومحمد عبد القادر نائب رئيس تحرير صحيفة «الرأي العام» الغراء وظهر بعد قليل زميلنا الصحفي الكبير الأستاذ راشد عبد الرحيم وشاهدت عدداً من الزملاء والمراسلين الذين يمثلون الصحافة المحلية والعالمية والفضائيات السودانية والعربية والعالمية، وجلستُ إليهم أحاول معرفة ما يجري داخل غرف التفاوض، وكنتُ أحاول قراءة الواقع لدى كل من التقيت بهم، فوجدتُ أكثرهم تفاؤلاً الأستاذ النور أحمد النور، بينما تفاءل بحذر شديد بقية الزملاء. التقيت بالأستاذ عماد سيد أحمد السكرتير الصحفي للسيد رئيس الجمهورية، بعد أن صعدتُ إلى الطابق الأعلى حيث مقر مركز الخدمات التابع للفندق والذي يمكنني من إرسال مادتي التحريرية بعد أن فوجئت بأن شبكة الاتصالات اللاسلكية الداخلية لا يمكن الاستفادة من خدماتها إلا لنزلاء الفندق عن طريق كلمة سر خاصة. هناك التقيت بالأستاذ عماد سيد أحمد وعلم مني أنني في أثيوبيا بدعوة من الاتحاد الأفريقي، ثم التقيت بعدد كبير من أعضاء الوفدين الرئاسي والمفاوض ووجدتُ الدكتور محمد مختار محمد حسين والدكتور كمال عبيد والأستاذ الزبير أحمد الحسن والفريق محجوب شرفي، وقد ازدادوا نحولاً وشحوباً نتيجة الإرهاق المستمر وجولات الحوار المتواصلة والتفاوض المتصل. ووجدت من بين الزملاء الذين حرصوا على متابعة التفاوض الصحفي النشط صاحب اللمحة الصحفية الخاطفة الابن الأستاذ أحمد دقش، ووجدت أحدث زوجين في الصحافة السودانية الأستاذ جمال إدريس والأستاذة مي علي، وقد حولت المفاوضات أيامهما الزوجية الأولى إلى (شهر عمل) بدلاً عن أن تكون شهر عسل. أليل الليل، وكانت الإرهاصات تشير إلى أن ذلك اليوم الاثنين الرابع والعشرين من سبتمبر سيكون خاتمة المطاف في القمة المشتركة التي جمعت الرئيسين «البشير» و«كير» لكن معلومات تسربت ورشحت بأن هناك قضايا ما زالت عالقة لم يتم التوصل فيها إلى حلول ترضي الطرفين رغم الوساطة الأفريقية. إذن سترفع الجلسة، بل رفعت بالفعل، على أن تتم مواصلة اللقاءات في اليوم التالي (الثلاثاء)، ووجدتُ نفسي أنصرف من فندق الشيراتون بعد الحادية عشرة والنصف مساء أحمل أعباء الجهد المتواصل منذ صلاة الفجر حتى تلك اللحظة، ويسد الطريق أمامي إحباط قوي لأن الاجتماعات لم تفضِ إلى ما يتمناه الناس في السودان ودولة جنوب السودان، وخشيت أن يغيب صوت العقل وتتوارى الحكمة خلف حجب التعنت والتشدد والتمسك بالرأي الواحد.. وكنت أجرجر قدمي بصعوبة، وأشعر بأن الخطوة الأولى إن تواصلت، فلابد من الوصول إلى الهدف المنشود. قلت لنفسي، وأنا أستجمع قواي وأفرك يدي اتقاء ذلك البرد الذي لم يزل يراوح مكانه ما بين اثنتي عشرة إلى خمس عشرة درجة، قلت لنفسي إن الصبر طيب.. وبدأت أمشي نحو بوابة الخروج لأستقبل أول سيارة أجرة تقلني أو تعيدني إلى مقر إقامتي في فندق «قيون» وخطوات نحو الشارع، ولسان حالي يقول: (يا لطيف..).