في الحلقة السابقة قلنا أننا في السودان لا نعرف شهر الربيع إلا بوصفه ، ولكننا ننتظر(الربيع) السياسي وهو نسمة الحرية ، قلنا أننا لا نختلف كثيراً عما في البلدان التي ثارت شعوبها . وحاولنا أن نجيب على السؤال : لماذا تأخر (الربيع العربي) في السودان؟ والإجابة السريعة كانت. لأسباب منها السياسي والاجتماعي والديني . وهي في مجملها مازالت في مرحلة التكوين وذلك ليس لأنها تناقضات حقيقية بالمقارنة بليبيا وسوريا بل لأن الأحداث المتلاحقة الكثيفة في النموذج السوداني لسنوات طويلة ذوّبت دواعي الثورة . وعددنا هذه الأزمات السياسية. هنا نواصل الأسباب الثقافية الدينية والإجتماعية والخلفية التربوية التي ربكت الوجدان الوطني!! بالإضافة إلى مشكلة الجنوب وأزمة دارفور، وأزمة الفقر ، وقرارات الجنائية ، هناك عامل آخر يمكن أن نضيفه مع الأسباب السياسية وهو ، قدرات (البشير) الهائلة في التلاعب بالوجدان الوطني. تستطيع أن تقول أن لديه نوعاً من (الكرزما اللغوية) أو قل سحر (ابن بلد) وهو في الأصل قادم من قاع المجتمع يعرف تماماً مكان الضعف في السامعين. إذا أراد مثلاً أن يقنع المواطن بموافقة تجاه القوانين الدولية ، يستعير صيغة قديمة مغروسة في التراث الشعبي مثل (الزَّارعنا اليقلعنا) وهي من مصطلحات (الجعولية التراثية) أمام سحر هذه اللغة هناك من لا يملك إلا أن يقتنع بقدراته على (تحدي) العالم! الإشكالية ليست في استحالة تنفيذ هذا التحدي لأن الصورة واضحة النتيجة بل في أن هذه اللغة تزيد من أزمة الإرتباك في الوجدان الوطني . لم أصادف في المؤيدين من يقول لك في موضوع الجنائية الدولية أن البشير بريء و أن المنظمات الإنسانية التي حبكت التهمة مغالية ولو قالوا ذلك لكان لرأيهم وجاهته ولكنهم يتحاججون بملفات دولة إسرائيل وبحكاية المعايير المزدوجة في المحافل الدولية. سيبقى في وعي هؤلاء شرخ خلقي سيظل ينخر ضمائرهم ، ولا فائدة تذكر يمكن أن يجنيها الرئيس وأنصاره من هؤلاء مع أول عملية كسر لحاجز الخوف سيتركون الرئيس في العراء. نورد مثل آخر من لغة (الرئيس) في التقليل من آثار الحصار الاقتصادي في وعي المواطن. يقول: (ياجماعة الرزق عند مين ... عند الله) !! وهنا يتداخل الديني بالسياسي ، لأن (الفقر) يمشي بين الناس في وسط السوق العربي لا سبيل إلى إنكاره بسهولة دون تحييد العقل بالتنويم أو بالتعطيل.ورغم أن الوقائع هنا لا تعضد بعضها ، بل لا علاقة بينهما ، إلا أن إمكانية الخلط قائمة في ذهن كثير من المؤيدين وهو يعلم هذا جيداً. مثل هذا (التوظيف) في معالجة أثارالأزمة الإقتصادية نجده أيضاً لدى (النائب الأول): كرر مثل هذا التبرير وهو يدافع عن ارتفاع الأسعار بقوله: (أن الرزق غير مربوط بالدولار)، طبيعي أن يحدث الخلط حتى ينسى السامع أن (الدولار) ليس مقياساً مطلقاً للرزق ولكنه أقوى أسباب الرزق.ارتفاع أسعار الدولار مؤشراً واضحاً لضيق الأرزاق! نواصل مع أقوى أسلحة (البشير): يستطيع أن يمحو آثار أي قمع سياسي في ذهن المواطن بجمله عاطفية هائلة التأثير، مثل قوله:(ياجماعة ، أنا معاكم من عشرين سنة حصل كضبت عليكم)!! اللمسة الحانية في مصطلح (أنا معاكم) تستطيع أن تحدث إرباكاً هائلاً في المواطن المتردد. الوجدان الثقافيتوظيف الوجدان الديني أمر برعت فيه (الإنقاذ) وعملية الاختراق السياسي من هذه الزاوية هي سبب بقاء نظام (الإنقاذ) كل هذه المدة، أما سهولة الاختراق من هذا الجانب سببها توفر شروط التواصل اللغوي، وقد برع فيه الرئيس، وأيضاً ضعف الخلفية الثقافية، وقد شرحنا من قبل صورة الاضطراب في الوعي الديني، وإذا كان لابد من إعادة بعض ماقلناه ، فهو أن العقيدة الدينية المتقدة دائماً في الوجدان السوداني لاتحرسها ثقافة لهذا، من السهل توظيفها سياسياً وتجارياً، وهناك من يوظفها عرقياً .. وفوق ذلك إمكانية تحريك بعض أسلحة الإرهاب من قبل علماء لايتورعون من تحريم الثورة على(البشير) باعتبارها خروج على الإمام!!وطبقاً لما أوردنا آنفاً إذا كانت الخلفية التربوية معتمدة بالكامل على التربية الدينية فيجب أن نتوقع اضطراباً في الخلفية التربوية . وهنا أصبح في الإمكان الإجابة على السؤال الذي تلوكه الألسن وهو: لماذا يستخف السوداني بكل ماهو حكومي أو حق عام؟ بل ماهى أسباب ضعف (الوطنية) في السودان؟ السبب أولاً تربوى: أكثر من 70% من المجتمع السوداني لا يعرف (الوطن) أو قل (الحق العام) إلا من خلال : شيخ قبيلة أو شيخ طريقة. إذا أردت أن تحرك الوجدان الوطني في السودانيين خارج المدن وهم أكثرية لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال هؤلاء الشيوخ. ومن السهل السيطرة عليهم وقد بدأ الانجليز بذلك حينما وظفوا الإدارة الأهلية . لا تجد الصورة النقية للوطن السوداني إلا في حنجرة الفنانين بدءاً من خليل فرح حتى مجذوب أونسه ، صاحب البكائية الحديثة: عزيز أنت ياوطني برغم قساوة المحن قبل أسابيع معدودة حينما اشتدت المظاهرات على الحكومة ، خرجت علينا صفحات ملونة باهظة التكلفة تتحدث أن (الصوفية يؤيدون البشير)،ولكن من سوء حظ المشرفيين أن الشيوخ الذين تم اختيارهم على عجل كانوا من شيوخ أطراف المدينة ومعلوم أن سيطرة (السجادة) ضعيفة على إنسان المدينة ، وهذه الخطوة لن تؤدي إلى شيء نافع سوى تسجيل موقف.هنا لابد أننا قد وصلنا إلى العناصر الأساسية المركبة لتجربة (الخوف) لدى السوداني. ونعيد تلخيصها هنا وهي: 1 . الخوف التاريخي مما هو خارجي والقرارات الدولية المتلاحقة. 2 . لغة (البشير) الفاعلة في اختراق الوجدان الاجتماعي الديني. 3 . توظيف الشعارات الدينية من قبل بقايا الحركة الإسلامية. 4 . ضعف الخلفية التربوية والثقافية للشعب السوداني (الفقر والجهل). 5 . البندقية والعصا. ترسخت جذور هذا (الخوف) حتى حدثت نقلة نوعية وأصبحت (ثقافة) ، هذه الثقافة هي التي يعبر عنها المواطن بطريقةٍ عفويةٍ عندما يتساءل: من هو البديل؟ هذا السؤال الذي وقفنا عليه طويلاً في وقفة سابقة نطرحه هنا دليلاً على الحيرة المعمقة في دواخل المواطن السوداني المعاصر. وهو هنا كأنما تماهى في ثقافة الجلاد ويبحث عن مبرر عقلي لقبول الإستبداد.دراسة ميدانيةقبل أن نختم !! نحكي لكم قصة «حيرة عظمى» مواطن بلغ درجة عجيبة من الحيرة في تجربة حية كنت شاهداً عليها:معلم في المعاش بلغ من الوظيفة درجة مدير مدرسة ثانوية . ظل من أنصار الحركة الشعبية كان لا يقرأ سوى جريدة (أجراس الحرية) لا أعرف أحداً كره (الإنقاذ) مثله.عندما سألناه : لمن صَوَّتْ في الانتخابات؟ وكنا نتوقع أنه صوت لعرمان قال ببساطة شديدة إنه صوت لعمر البشير!!كيف فعلت ذلك ياموسى؟ صمت قليلاً وحاول أن يجد عذراً بحكاية الطريق الجديد في دلقو ولكنه تراجع لعدم منطقية مبرراته!!قال دون أن يرف له جفن:لا أدرى!! فعلت ذلك رغم أنني أكرههم!!حتى الآن أصدقاؤه يتندرون منه، ولأنني أعرف صدقه ظللت لمدة طويلة أفكر في صورة هذا الوجدان الحائر وكدت أن أغير قناعاتي لولا وطأة الوقائع التي تجري على الأرض، الذي يبدو بوضوح أنه ضحية هذه (الكارزما الهائلة). الخلاصة: إذاً لم يشهر(الإنقاذيون) العصا في وجه الشعب إلا بعد أن أعدوا جيداً متطلبات الترويض، وذهبوا في ذلك شأواً بعيداً ، درجة جلد أطباء (مضربين) أو محامين يناقشون (سياسة) في إفطار رمضاني. لم تكن أحزاب اليسار مغالية حينما هتفوا أيام النميرى:(الشعب جعان لكنو جبان) ولكن لم تكن البندقية وحدها هي آلة التخويف فمعلوم أن السوداني في المستوى الفردي لا يهاب الموت ولكن المفارقة أن هناك من يستطيع أن يموت من أجل (سفة تمباك) ولايموت من أجل وطن. إذاً طبقاً لهذه الرؤية أن سبب تأخر (الربيع العربي) في السودان هو الحيرة والارتباك لدى المواطن السوداني جراء كثافة الصدمات ومجيء الثورة مسألة وقت إن لم يحدث انفراجاً تلقائياً في القمة قناعة لدى الحكام! وهذا أمرٌ مستبعد!! أو انقلاب داخلي بين مراكز القوى ، وأسباب خارجية قاهرة. الثابت إذا استمرت (الإنقاذ) على هذا الحال دون أن تلتفت إلى تغيير.. فان انفجار الثورة! فقط! مسألة وقت ولننتظر لنرى!!