يمثل (ميثاق الفجر الجديد) أحد المواقف السياسية وإحدى المحطات التي تقف شاهداً على فشل (النخب السياسية) في إدارة الصراع بينها، وبالتالي مزيداً من إهدار الدماء، ومزيداً من إهدار الموارد، ومزيداً من ضياع زمن السودان. وكل ذلك يدفع ثمنه المواطن السوداني، الذي على مر التاريخ يدفع ثمن حماقات أبنائه العاقين. وقبل أن ندخل في تحليل الميثاق والآثار السياسية المرتبة عليه، ومن ثم نتائجه على الواقع السياسي السوداني، يعجَب المتابع والمحلل لردة الفعل العنيفة من الحكومة والمؤتمر الوطني تجاه الميثاق والموقعين عليه، وكأن ذلك يوحي بأن خطراً عظيماً يتهدد الإنقاذ ويهدد وجودها، بل ربما يتخيل المتابع من خلال ردة الفعل العنيفة من الحكومة أن هذه الجماعة التي إجتمعت في كمبالا ووقعت على ميثاق الفجر الجديد قد أكملت إستعدادها لإقتلاع هذا النظام بهذا التوقيع، أو على أسوأ الفروض أن هذا الميثاق يمثل بداية العد التنازلي في عمر الإنقاذ. ومع أن كل ذلك لم يحدث، ومن خلال قراءة التاريخ القريب للمعارضة في صراعها مع الإنقاذ. فقد كان التحالف الأول لإسقاط الإنقاذ يضم الحركة الشعبية بقضها وقضيضها، وكل حركات دارفور في أوج عنفوانها (العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان)، والتجمع الوطني شاملاً الأمة والإتحادي بجناحيه العسكريين (جيش الأمة وجيش الفتح)، ودول الجوار (يوغندا، إثيوبيا، أريتريا، مصر، ليبيا، تشاد)، ومن العالم بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وبقيادة الولاياتالمتحدة التي أوكلت إسقاط النظام لوزيرة خارجيتها (مارلين أولبرايت) ومستشار الأمن القومي (أنتوني ليك) مع إعتماد 200 مليون دولار، تحت شعار (إسقاط النظام بواسطة جيرانه). ومع كل الإمداد العسكري واللوجستي لم يستطع هذا التحالف مع توافر كل هذه الإمكانات إسقاط النظام. ثم كانت المحاولة الثانية بعد توقيع نيفاشا، والتي كانت تشمل خطة مزدوجة لإسقاط نظام الإنقاذ عن طريق العمل العسكري عن طريق حركات دارفور، ومن خلال ممارسة المعارضة بواسطة الحركة الشعبية من داخل النظام لإضعافه، ومن ثم القضاء عليه نهائياً من خلال الإنتخابات. ثم كان تحالف جوبا الذي ضم كل أحزاب المعارضة، مدعوماً بكل دول الجوار التي ذكرنا، ومدعوماً بالقوى الدولية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، مسخرةً لهم قناة الجزيرة الإعلامية بكل ما تحمله من تأثير، والذي أقض حتى مضجع أمريكا فإعتدت على مكاتبها في أفغانستان وإعتقلت مراسلها علوني، وإعتدت على مكاتبها في العراق وإعتقلت مراسلها طارق. كل هذه القوى فتحت لها قناة الجزيرة أبوابها فكان خطاب (باقان أموم) المشهور عبرها والذي توعد فيه بإخراج أربعين ألفاً (غداً)، وبعدها مليون لإسقاط النظام. ثم كان خطاب مالك عقار الذي توعد بثورات الهامش والتي سوف تتوجه نحو الخرطوم لإسقاط النظام. كل هذا الترتيب والفعل والتدبير وكانت النتيجة (حضرنا ولم نجدكم). الحكومة تعلم كل هذا وأكثر منه، لذلك لا ندري ولا نستطيع أن نجد تفسيراً للإنفعال الحكومي وردة الفعل الغاضبة تجاه ميثاق الفجر الجديد والموقعين عليه. وهنا لابد أن نورد حقيقة إستنتاجية من خلال البحث والمتابعة، أن هذه المعارضة لن تستطيع أن تسقط الحكومة، إنما تسقط الحكومة أفعالها ومدى إستجابتها وتحقيق رغبات ومتطلبات مواطنيها. وحتى لو فشلت الحكومة في إشباع رغبات وتطلعات مواطنيها فإن المعارضة بسلوكها وفشلها تضيف كل يوم عمراً جديداً للحكومة، وتجعل المواطنين رغم عدم تحقيق رغباتهم بواسطة الحكومة أكثر قبولاً لها، وأكثر إستعداداً لتحملها، وأكثر بعداً من الإستجابة للمعارضة، لأنهم يرون ممارسات ونماذج ما تقدمه المعارضة. لن تستطيع الحكومة أن تحقق الذي ذكرنا في المعارضة ولو أنفقت ملء الأرض ذهباً. ولكن المعارضة بسلوكها هذا وما تم في خلال أقل من إسبوع قد قدمت للحكومة أنجع السبل لإزالة أحزاب المعارضة من باطن الأرض تماماً لما وجدت أفضل ما فعلته بنفسها، ويتضح ذلك من الآتي: أولاً: تنكرت هذه الأحزاب لكثير من المبادئ المعلنة والتي عليها تتواثق عضويتها. ثانياً: قبل أن يجف مداد الميثاق الذي كتب به، فقد كان الهروب الصامت، فقد أقر السيد الصادق المهدي بلقاء كمبالا، وأن منّاع مكلف رسمياً من الأمانة العامة لينوب عن الحزب ولكنه -كما قال المهدي - إجتهد في قبول كثير من النقاط التي تمثل حزب الأمة، ولكن هنالك نقاط غير مقبولة)، وقال عبد الحميد الفاضل القيادي بحزب الأمة (أن حزبه لن يوقع مع أي قوى وحركات تحمل السلاح)، أما الحزب الشيوعي فقد قال سكرتيره العام محمد مختار الخطيب أن ممثله صديق يوسف لم يكن مفوضاً ولا ممثلاً للحزب وإنما يمثل قوة الإجماع. وقال القيادي بحزب المؤتمر الشعبي أبوبكر عبد الرازق (أن حزبه عقد إجتماعاً على مستوى الأمانة العامة إعترض فيه على أغلب ما ورد في الميثاق وإعتبر ذلك إقداماً على تمزيق السودان إلى دويلات). ووجه تحالف أحزاب وحركات دارفور الموقعة على السلام إنتقادات لاذعة لأحزاب المعارضة وطالبتها بمحاسبة أعضائها الذين وقعوا على الميثاق. ثالثاً: لم تبق إلا أحزاب اليسار الصغيرة والتي كما يسميها السيد الصادق المهدي (أحزاب الفكة) والتي لم تستطع أن ترفع صوتها لتقول أنها وقعت على الوثيقة، وأنها مصرة عليها، كما أنها لم تتبرأ منها، على الرغم من أن هذه الأحزاب الصغيرة معنى ومبنى ليس لديها ما تخسره. رابعاً: يأتي بعد ذلك شاهد الملك (مبارك الفاضل) ليؤكد أن ممثلي أحزاب المعارضة الذين وقعوا على وثيقة الفجر الجديد بالعاصمة اليوغندية كمبالا جاؤوا بتفويض وتنسيق كاملين من قياداتهم. مشيراً إلى أن الحوار بشأن ما حوته الوثيقة ظل متواصلاً بين قادة الأحزاب والجبهة الثورية منذ مدة. وطالب مبارك قادة أحزاب المعارضة الترجل إن لم يكونوا قادرين على تقدم الصفوف بسبب تخوفهم من تهديدات الوطني. هذا المشهد الدرامي على مسرح اللا معقول للسياسة السودانية قد تم تمثيله بحضور جسدي وعقلي كامل للممثلين (ممثلي أحزاب المعارضة)، أمام الحضور الجماهيري الكامل للشعب السوداني والذي هاله أن يرى أحزاباً معارضة وعريقة تتساقط كما الذباب أمامه على المسرح لهول المأزق وصعوبة العبور على الجسر المتهاوي. هذا الشعب الذي من قيمه أن يدافع فيه كل مواطن عن أي قيمة من القيم وأن يناضل من أجلها وأن يموت في سبيلها (يمين فوق راس الكتلتو أقيف لا حولي). وعلى ذلك نقول أن الذي حدث ما كانت الحكومة تستطيع فعله بأن تباعد بين المعارضة والثورية بهذه الصورة. وفي ظل إهتزاز الثقة بين الأحزاب والثورية لن تجد الأحزاب مناصاً من التقارب مع الوطني عاجلاً أم آجلاً، وربما عندما تعود الثورية إلى رشدها لتتفاوض مع الوطني تكون قد فقدت كرتاً أساسياً داعماً لموقفها. وعلى ما سبق إذا خصمنا من القوى التي كانت تعمل على إسقاط الإنقاذ بعد العام 1996، وبعد العام 2005، خصمنا منها كل دول الجوار ماعدا يوغندا، وخصمنا منها حركات دارفور إلا بقايا (مناوي)، وبقايا (عبد الواحد)، وبقايا (خليل)، وخصمنا منها أمريكا الرسمية التي تعتقد الآن أنه لابد من قيام حسن جوار بين الدولتين، لم يبق إلا (البقايا) مع عرمان والحلو وعقار وأبوعيسى، من ذلك يتأكد لنا أن ردة الفعل الغاضبة من الإنقاذ والمؤتمر الوطني لم تكن محلها. وعليه إذا حاولنا أن نقرأ الميثاق قراءة موضوعية سوف نتوصل إلى الآتي: أولاً: إن قادة الثورية هم أصلاً من المطلوبين جنائياً، ولذلك فإن تصرفاتهم تكون دائماً مما يؤمن لهم الحماية وليس من بين إهتماماتهم مصلحة السودان. ولا يتحقق ذلك إلا أن يكون هناك عدم إستقرار مستمر في السودان، أو يكونوا هم جزءً أصيلاً من النظام الحاكم. لذلك فإن إسقاط نظام الإنقاذ سوف يكون من الأهداف الرئيسية والوحيدة، لأن في ذلك يتحقق الأمن الشخصي لهم. وهذا الذي يؤزم مشكلة السودان. فعندما تكون المطالب موضوعية مهما طال أمد الصراع فسوف يتم الإتفاق بين المتصارعين، وهذا ما حدث مع الحركة الشعبية. أما قادة (الثورية) فقد إلتحقوا بالحركة الشعبية هرباً من العدالة، وطمعاً في إسقاط نظام الإنقاذ، وعندما حصل الجنوبيون على مطالبهم وقّعوا الإتفاق مع الحكومة (وترك قادة الثورية في السهلة)، والآن يحاولون إستخدام مواطني النيل الأزرق وجنوب كردفان لتحقيق ذلك. ولن يستطيعوا. ولكن سوف يدفع مواطن النيل الأزرق وجنوب كردفان والسودان الثمن. ثانياً: تعكس هذه الوثيقة الأزمة العميقة بين مكونات المعارضة، وعدم الثقة مع بعضها البعض، كما أن كل منها يعمل تكتيكياً على عزل الآخر وإقصاءه، ويتضح ذلك في الآتي: 1. نصت الوثيقة على أن الفترة الإنتقالية بعد إسقاط النظام تكون أربعة سنوات، وواضح أن (أحزاب الفكة) ذات الصوت العالي تدرك أنه ليس لها قاعدة جماهيرية يمكن أن تصل للإنتخابات عن طريقها، إذ لو أُجريت الإنتخابات فإن المقاعد سوف توزّع بين حزبي الأمة والإتحادي الديمقراطي. وقد ثبت هذا عملياً بعد ثورة أكتوبر 1964، وبعد إنتفاضة أبريل 1985. لذلك تريد أن تطيل الفترة الإنتقالية حتى تستطيع أن تعيد هندسة المشهد السياسي السوداني ومن ثم تتحايل على أن تجد لها قدم إذا تمت إنتخابات. 2. حاول كل من أحزاب المعارضة والحركات الثورية أن يستخدم الآخر لعرض بضاعته مزايداً على الآخر في سوق الثورات العربية، ولما كان كل واحد منهما يعمل تكتيكياً لإحراج الآخر، إنقلب السحر على الساحر وعاد التدبير مرتداً إلى صدريهما، فكان الهروب والتردد وكشف الأسرار. 3. يحاول مبارك الفاضل أن يزايد على الحلو وعقار وعرمان مقدماً نفسه للقوى الخارجية وخاصة الولاياتالمتحدة بأنه القائد المناسب لسودان (الفجر الجديد)، خاصة وأنه ينتمي إلى بيت المهدي العريق. 4. ربما يكون هدف عرمان والحلو وعقار بما قاما به إحراج الأحزاب، وبالتالي تنكشف هشاشتها وضعفها للمجتمع السوداني، وبالتالي يكون البديل منهم. ثالثاً: تمثل القراءة الموضوعية للميثاق أنه إجتهاد من قوى لها وجهة نظرها وتصورها في حكم السودان. ولكن إلى حد كبير يعكس ضيق أفق هذه المجموعة وقلة تجربتها، وربما (الكره للإنقاذ)، ونظرتها المحدودة لحكم السودان، وأنها لم تقرأ مكونات السودان جيداً، وأنها لم تقرأ تاريخ السودان السياسي منذ الإستقلال والذي من أهم سماته إقصاء الآخر وعدم القبول به، وبالتالي لم ينعم السودان بالإستقرار منذ الإستقلال وحتى الآن. رابعاً: في تقديري وعلى الرغم من ردة فعل الحكومة المبالغ فيها تجاه الميثاق، إلا أن الميثاق يمثل مقترحاً (تفاوضياً) للتفاوض. ودائماً ما تكون المقترحات التفاوضية ذات سقوف عالية، ولذلك ليس المطلوب فيها تحديد سقوف معينة. يأتي موقف كل طرف في التفاوض ورغبته في التوصل إلى حل وإمتلاكه لإرادة سياسية هي التي تحدد ما يمكن أن يتم التوافق عليه. خامساً: ليس في إحتواء الميثاق على إسقاط النظام عن طريق السلاح من جديد، إذ أن هذا الأمر معلوم ويمارس على الأرض ومعلن، ويتم الدعم كذلك من قوى خارجية، وبالتالي لا أعتقد بأنه السبب المباشر في إنفعال الحكومة. وفي الختام يبقى الحوار هو الحل لكل صراع، ولم تحسم الحرب الصراع في يوم من الأيام. وبعد ما بينا للميثاق وما عليه، آمل أن تنظر الحكومة بعقلية الكبير وأنها الحريصة على إستقرار وأمن البلاد. ولن تستقر البلاد طالما كان هناك من يعتقد بأنه مظلوم، حتى يعتقد بزوال مظلمته. ويبقى للحكومة أنها إبتليت بمتمردين هاربين من العدالة وليسوا بأصحاب قضية، وتلقى في هذا العالم المختل من يساعدهم. وعليها قبل غيرها الأمل والعشم في كظم الغيظ وتقديم الكثير من أجل ما تبقى من السودان.