وبالأمس كنا في بلاد اليانكي.. التي تظللها رايات ملطخة بكل خطيئة.. ولكن هناك راية واحدة.. تعلو كل الرايات.. ترفرف في شموخ وإباء.. ترقص مع دفقات الريح.. وهي الراية التي تعلن أن هذه البلاد حكومة وشعباً وأفراداً.. لا يحتقرون شيئاً احتقارهم للكذب.. واليوم نذهب إلى أستراليا.. تلك التي يعلو هامتها التاج البريطاني.. يحط طائرنا إلى بلاد الكنغرو.. وقصة تفيض دهشة وتحتشد غرابة حدثت مع صديقنا الرفيع النبيل الجميل.. الرجل الأولمبي أبو عبيدة البقاري.. القصة تعلن بجلاء.. بل تصرخ في صوت جهير.. رفض تلك البلاد واستهجانها للرشوة.. والقصة تحكي وعلى لسان «البقاري» أن الرجل أراد التحصل على تصريح قيادة سيارة في شوارع وطرقات تلك القارة.. كانت التي تختبره فتاة وبعد سبع محاولات أو قل بعد سبع امتحانات أذنت له أخيراً بالرخصة وهي التي أسقطته سبع مرات متتالية.. وعند استخراج رخصة القيادة أخبرته أن رسوم استخراجها هي أربعة عشر دولاراً.. هنا دفع «البقاري» ورقتين بقيمة خمسة عشر دولاراً.. واستلم رخصته وذهب.. بعد أيام جاءه استدعاء من الشرطة.. ذهب إلى الشرطة وهو في قلب الدهشة أخبروه هناك أن الفتاة كانت قد أبلغت الجهات المسؤولة أن هذا الرجل قد دفع خمسة عشر دولاراً ولم يأتِ لاستلام «الباقي» وهو دولار وهنا بدأت رحلة العذاب والجحيم.. أخبرهم أنه لم يخطر بباله مطلقاً أن يقدم رشوة للفتاة.. حدثهم كثيراً عن عفوية المواطن السوداني وكيف أنه لا يلتفت ولا ينتظر «الباقي» عندما يكون ضئيلاً وزهيداً.. بل وتافهاً. المهم أنه ظل يتلقى آلافاً من أوراق الاستدعاء حتى فاضت الحجرة التي بها يقيم وينام.. وقد بلغ ما تلقاه من استدعاءات وأسئلة.. ودفوعات مبلغاً يساوي ألف.. ألف مرة من أصل المخالفة كما يرون وهو دولار.. وتدخل النائب العام وقضاة ومحلفون.. بل كان يذهب بالقطار عند الاستدعاء وكانت الرحلة تستغرق ثماني ساعات.. وأخيراً جداً اقتنعت هيئة المحلفين أن الرجل تعامل بعفوية بالغة وبراءة أكيدة وأصدروا حكماً بالبراءة مع أنه كان يواجه شبح السجن والغرامة حسب نصوص القانون بعشرة آلاف دولار.. ولا تعليق لدينا غير أن هؤلاء الكفار يحرمون الرشوة.. وكأنهم قد قرأوا حديث النبي المعصوم عن لعن الراشي والمرتشي.. وليكن ختام سياحتنا في دار الحرب تلك أو بلاد هؤلاء الكفار في لندن وأحكي عن قصة حدثت لي شخصياً.. وهاكم تفاصيلها.. بين عامي 1978 و1980 كنت أزور لندن كثيراً.. وكنت أقيم دوماً في فندق متواضع قريب من محطة قطارات الأنفاق في «بادنتون».. وقبل أن استقل قطار الأنفاق ذاك.. كنت أغشى يومياً حانوتاً صغيراً تديره امرأة إنجليزية مسنة.. كنت «يوماتي» أتجاذب معها الحديث.. وأخيراً أشترى منها «لوح» من الشيكولاتة.. واذكر جيداً أن ثمنه كان ثمانية عشر بنساً.. وفي يوم من الأيام.. وجدت ديباجة موضوعة على أحد أرفف المتجر الممتليء بالشيكولاتة تحمل هذه الديباجة ثمن القطعة الواحدة عشرون بنساً.. وعلى «رف» آخر ديباجة تعلن أن ثمن القطعة ثمانية عشر بنساً.. هنا سألت المرأة.. اليوم لديك نوع جديد من الشيكولاتة.. أجابت ليس جديداً إنه نفس النوع.. سألتُ مرة أخرى.. إذن حجمها أكبر من ذاك القديم.. أجابت.. لا.. نفس الحجم والوزن.. إذن منتوج شركة أخرى.. أجابت.. نفس الشركة.. وهنا سألت في ضجر.. أو قل دهشة.. إذن لماذا يا مدام.. اختلاف في ثمن القطعة.. ولماذا يحمل «رف» ديباجة ثمانية عشر بنساً ورف آخر عشرين بنساً.. هنا قالت المدام.. إنه الثمن الجديد.. فقد حدثت مشاكل في ذاك البلد الأفريقي الذي نستورد منه الكاكاو.. وعليه فإن الثمن الجديد هو عشرون بنساً.. هنا سألت.. «طيب» من ذا الذي يشتري بالثمن الجديد ما دمت تبيعين بالثمن القديم.. قالت.. أعلم ذلك جيداً.. وسأبيع البضاعة التي اشتريتها بالثمن القديم أيضاً بالثمن القديم وعندما تنفد سأبيع بالثمن الجديد.. هنا قلت لها في إهمال وبلادة.. يا مدام لماذا لا تخلطين تلك التي بالثمن القديم مع تلك التي بالثمن الجديد وتبيعينها كلها بعشرين بنساً؟.. هنا جحظت عيون المرأة وصار وجهها في صفرة الموت.. ثم دنت مني وهي تهمس في فزع قائلة هل أنت حرامي؟.. واسألكم أحبتي القراء بحق السماء.. هل أنا حرامي..أم أن تلك المرأة غشيمة «والغنماية تاكل عشاها»!