كامل إدريس و"بيع الحبال بلا بقر" أسامة سعيد تتعمق قناعتي، يومًا بعد يوم، بأن الصراع المستمر في السودان، منذ ما قبل الاستقلال وحتى اللحظة، لم يكن في جوهره صراعًا تقليديًا على السلطة، بل هو صراع بنيوي بين مركز مهيمن وهامش مقهور؛ بين سودان قديم متشبث بالامتيازات والهيمنة، وسودان جديد يتوق إلى العدالة والمساواة وإعادة تعريف الدولة على أسس جديدة. صراع بين من صاغوا مفاهيم "الجلابة السياسية"، ومن ظلّوا لعقود وقودًا لحروب الآخرين وضحايا لتهميش ممنهج ومتوارث. لم ينجح المركز في ترسيخ سيطرته نتيجة تفوق أخلاقي أو سياسي، بل عبر أدوات ناعمة وخبيثة، من أبرزها: سياسة "فرّق تسد"، التي استُخدمت لتعميق الشروخ الاجتماعية داخل الهامش، وتأجيج الصراعات الإثنية والمناطقية، بما يمنع أي مشروع وطني جامع يهدد سطوته. من أخطر تجليات هذه السياسة، ما يحدث في دارفور الان ، حيث نُقلت الحرب إلى الإقليم، وتم تسويقها كصراع داخلي، لا كجزء من أزمة وطنية شاملة. لقد ابتلع بعض قادة الحركات المسلحة ، وعلى رأسهم مني أركو مناوي، الطُعم، حين قدّم الصراع باعتباره "غزوًا خارجيًا يستهدف دار الزغاوة"، في حين أن الحقيقة الأعمق هي أن الحرب كانت – وما تزال – امتدادًا لمعركة كبرى بين المركز والهامش، حول من يملك حق تشكيل مستقبل السودان. واليوم، لا تختلف السياسات الجارية عن سابقاتها، بل تعيد إنتاج ذات الأساليب القديمة بحيل جديدة أكثر تمويهًا. أحد أبرز الأمثلة على ذلك ما ورد في تصريحات الدكتور كامل إدريس الأخيرة، بشأن ملامح حكومته المزعومة . ففي ثنايا حديثه، برز نمط مألوف من سياسة "بيع الحبال بلا بقر" – تلك السياسة التي لطالما اتُّبعت في الأنظمة السابقة، بتوزيع وزارات هامشية فارغة من السلطة على ممثلي الجنوب ودارفور، و شرق السودان و جبال النوبة دون اى سلطات و صلاحيات مؤثرة في مركز اتخاذ القرار . وها هي تُعاد اليوم، في صورة تفريغ الوزارات من جوهرها. فقد مُنح الدكتور جبريل إبراهيم حقيبة وزارة المالية، بفضل ثورة ديسمبر المجيدة ونضال قوى الهامش، غير أن تمسكه بالبقاء في الوزارة، وحاجة المركز لبندقيته في هذه المرحلة، دفع أصحاب القرار إلى امكانية الإبقاء عليه في المنصب، ولكن بعد أن جُرّدت الوزارة من صلاحياتها الحقيقية، بفصل ملفات التخطيط الاقتصادي والتعاون الدولي عنها، وتحويلها إلى مجرد "حصالة" تُدار من الخلف، بينما يُترك الوزير في موقع الحارس، لا المخطط ولا المنفّذ. ليست هذه المناورات سوى محاولة متجددة لإدامة السيطرة في يد قلة، ولتفكيك أي مشروع بديل قد ينبثق من قوى الهامش أو من تحالف وطني حقيقي. وهي كذلك تسعى لإشغال الحركات الدارفورية والدعم السريع في حروب الأطراف، واستنزاف طاقاتهم في صراعات داخلية، بدل توجيهها نحو تفكيك منظومة المركز وهيمنته. إن مقاومة هذه المنظومة تبدأ أولًا بفهم بنيتها، وكشف أدواتها، ورفض التورط في واجهاتها التجميلية. فالمعركة الحقيقية في السودان ليست بين الزغاوة والرزيقات ، أو بين الدعم السريع والحركات، بل هي بين نظام قديم يلفظ أنفاسه الأخيرة، وسودان جديد يُراد له ألا يُولد.