نواصل في حلقة هذا الأسبوع، ما بدأناه من مقارنة بين دستوري 1998 (الملغي)، و2005م القائم، في مجال توزيع السلطات والإختصاصات بين مستويات الحكم، في إطار منظومة الحكم الفدرالي. ü ولقد سبق لنا، أن عدّدنا السلطات التي خص بها المشرع الدستوري في دستور 1998 المركز أو الحكومة القومية، وقلنا إنها تشمل الدفاع، والأمن، والمؤسسات القومية والعلاقات الخارجية، والعملة، والتجارة الخارجية، والمشروعات والثروات والأراضي القومية، ونظم الانتخابات، والمهن العامة ووسائط النقل والإتصال العابرة. ü وبمقارنة السلطات القومية المشار اليها أعلاه، بالقائمة المقابلة لها في الدستور الحالي، نجد أن هناك توسعاً هائلاً في دستور 2005م الإنتقالي، وتفصيلاً أكثر دقة للمجالات القومية، ويكفي للتدليل على ذلك، التنويه إلى أن البنود القومية تحت دستور 1998 بلغت (18) بنداً، بينما وصلت إلى (38) في الدستور الراهن، والذي أضاف مجالات أمّا سكت عنها دستور 1998، أو أشار اليها بوجه عام، أو أحالها للولايات، أو لجدول السلطات المشتركة، وبهذه الطريقة يمكن الزعم بأن مهندسي دستور 2005، مالوا إلى التركيز على قوة المركز والأجهزة القومية. ü ولاعطاء أمثلة حية، نشير إلى أن دستور 2005م تجاوز دستور 1998، بالنص على إختصاص المركز بكل ما يتعلق بالبنك المركزي وتأسيس البنوك القومية، وبذكر السجون القومية وصيانتها، وبالمؤسسات القومية المضمنة في إتفاقية السلام الشامل، بما في ذلك المفوضيات الكبرى، كالمفوضية القومية للانتخابات، والمفوضية القومية للأراضي، ومفوضية حقوق غير المسلمين، والذي يُثار سؤال ملح الآن بشأن استمرارها بعد إنفصال الجنوب، وديوان المظالم العامة الذي حل محل هيئة الحسبة والمظالم، لكنه ما زال يعمل وفق القانون القديم، الذي صدر في ظل الدستور الملغي، وكذلك المفوضية القومية للمراجعة الدستورية، والتي يكتنف الغموض وضعها الحالي، إذ لا وجود فعلي لها الآن على الصعيد العملي أو في إطار المساعي لإقرار الدستور القادم عبر الآليات التي إنبثقت من لقاء الرئيس بالقوى السياسية في بيت الضيافة. ü ومن الاختصاصات القومية في الدستور الحالي، (العلم الوطني والشعار الوطني والنشيد الوطني)، والغريب في الأمر أن الدستور الإنتقالي قد أجاز للولايات ولأول مرة في تاريخ البلاد منذ تبنيها للنظام الفدرالي، الحق في إصدار دساتير ولائية، وبالتالي أعلام وشعارات ولائية، وهي في رأينا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ذلك لعدم وجود مبرر مقنع لاستمرار سبع عشرة دستور ولائي بجانب الدستور القومي، إذ ما أحوجنا وبلادنا تعاني من عقابيل فصل الجنوب، وفي ظل ضعف ممسكات الوحدة الوطنية، ما أحوجنا إلى قرار شجاع بالغاء هذه الدساتير والابقاء على دستور واحد للبلاد، وعلم ونشيد قوميين، لا نظائر لهما في الولايات، وبذا نقوي من قيم التوحد والتراص خلف رمزية قومية، تذكي المشاعر الوطنية، وتؤكد الوحدة الوجدانية للأمة السودانية. ü ومن إشراقات قائمة الاختصاصات القومية في الدستور الحالي، النص على قومية حقوق الملكية الفكرية والبراءات وحقوق المؤلف، وأيضاً مسألة «إبرام المعاهدات الدولية نيابة عن جمهورية السودان» وهذا الإختصاص الأخير، يحتاج إلى مواءمة مع بند في قائمة السلطات المشتركة، يمنح الولايات صلاحية إبتدار الاتفاقيات الدولية والتفاوض بشأنها، وإتمامها، في مجالات الثقافة والرياضة، والتجارة والاستثمار، والقروض والمنح والمساعدة الفنية مع الحكومات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية، وذلك دون إخلال بالنظم القومية. ü هذا النص، يمنح حكومات الولايات الحق في إبرام الاتفاقيات مع دول أجنبية، لكن وفق النظم القومية، ولقد شهدت السنوات الماضية إندفاع الحكومات الولائية في هذا المجال، عبر سفر وفود منها لدول مثل الصين وماليزيا وتركيا، والدخول في صفقات تجارية معها، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل هذه معاهدات دولية بالمعنى القانوني، والتي يتعين عرضها على البرلمان للمصادقة عليها؟ وهل يجوز أن نعتبر الولايات من أشخاص القانون الدولي ذات الشخصية المستقلة؟ ü ومن القضايا الجدلية في هذا الصدد ايضاً مسألة النظم الإنتخابية، إذ أن الدستور أناط بالمفوضية القومية للانتخابات إدارة وتنظيم الانتخابات القومية، وأكد ذلك قانون الإنتخابات القومية لسنة 2008م، ولم يذكر الدستور ولا القانون شيئاً عن الإنتخابات المحلية، الأمر الذي يستنتج منه أنها شأن ولائي محض، وحيث أننا مقبلون في القريب العاجل على إجراء انتخابات للمجالس التشريعية المحلية، فهل نترك لكل ولاية أن تضع وفق رؤاها قواعد واجراءات وضوابط هذه الانتخابات، في معزل عن الضوابط والتدابير القومية؟ وهل يجوز أن نترك مثل هذه القضية الهامة والحساسة للاجتهادات الولائية، دون ربطها بمعايير أو تشريعات إطارية تضمن حداً أدنى من الإتساق والتناغم؟ ü في الحلقة القادمة نواصل تحليل الاحكام ذات العلاقة بقسمة السلطة والثروة.