نواصل اليوم الحديث عن النظام الاتحادي، في الدستور، ولقد شرعنا منذ الحلقة السابقة في إجراء مقارنة بين النصوص والأحكام ذات العلاقة، في كل من دستور 1998 (الملغي)، ودستور 2005م الحالي. ü ولقد تناولنا في مستهل هذه المقارنة، المنهج الذي أُتبع في كل منهما عند النص على تقسيم البلاد إلى ولايات، إذ إختار دستور 1998، أن يورد أسماء الولايات وعواصمها في صلب أحكامه، بينما أحال دستور 2005م، القضية برمتها إلى قانون، كان مؤملاً أن يصدر قبل سبع سنوات، لكن لم يرّ النور حتى الآن. ü وإذا تركنا ذلك الأمر جانباً، فإن القضية الأهم في أي نظام فدرالي، هي تقسيم السلطة بين الأجهزة القومية والولائية. ü دستور 1998، خصص فصلاً كاملاً لتوزيع السلطات، فأفرد جزءاً من هذه السلطات للحكومة القومية، وآخر للحكومات الولائية، وثالث سماه «السلطات المشتركة»، وهي سلطات يمارسها المستويان القومي والولائي، كل فيما يليه، لكن وفقاً لمعايير وتشريعات قومية. ü أمّا الدستور الانتقالي الحالي، فقد وزع الصلاحيات بين ست مجموعات، ولم يسمها (سلطات) بل (إختصاصات)، كما إن هذه الإختصاصات لم ترد في صلب أحكام الدستور الموضوعية، ولم تأخذ أرقام مواد، كما كان الشأن في دستور 1998، لكنها جاءت في شكل جداول ملحقة بالدستور، ولا نريد هنا أن نخوض في متاهات الخلاف حول أفضلية النصوص الموضوعية- من حيث الصياغة الفنية- على الجداول والملاحق، في أية وثيقة قانونية أو دستورية، في حالة وجود تناقض، بين الأحكام الموضوعية المثبتة في المتن، وتلك الواردة في الهوامش أو الذيول. لكن الذي يهمنا حقيقة، هو النهج الذي إختطه كل من المشرعين الاثنين، عند إعداد الدستورين المذكورين، في الجزئية المتعلقة بتوزيع السلطات بين مستويات الحكم المختلفة الداخلة في الإطار العام للنظام الإتحادي. ü دستور 1998 كان يعالج واقعاً سياسياً وادارياً سهلاً وخالياً من التعقيد، يتكون من مستوين فقط للحكم، قومي وولائي، لهذا قسم السلطات بينهما عبر سلطات حصرية ينفرد بها كل مستوى، وسلطات مشتركة يتمتعان بها سوياً من حيث النوع، وإن إختلفا من جهة المدى والنطاق. ü وبمقارنة ذلك الوضع السهل والمبسط في دستور 1998، بما كان عليه العمل في دستور السودان الإنتقالي لسنة 2005م، قبل إنفصال الجنوب عام 2011م، نجد أن (الإختصاصات) قُسمت بين إختصاصات قومية، وإقليمية، وولائية، ومشتركة، ومتبقية، ثم أُضيف جدول سادس سُمَّى (تسوية النزاعات بالنسبة للاختصاصات المشتركة). ü هذا يعني، أن كيكة السلطة قد توزعت بين الخرطوم، وجوبا، وعواصم خمس وعشرين ولاية في البلاد، وعقب إنفصال الجنوب زال التناقض بين الهيكل الإداري في الجنوب وصنوه في الشمال، إذ كانت بالجنوب أربعة مستويات حكم هي القومي، والإقليمي (مستوى جنوب السودان)، ثم الولائي، وأخيراً المحلي، مقارنة بثلاثة مستويات حكم في الشمال هي القومي والولائي والمحلي. ü ومما لا شك فيه أن هناك عدة نظريات تحكم توزيع السلطة بين المركز والأطراف، في الفدراليات الكبرى، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية والمانيا، وكندا، وسويسرا، والهند، وغيرها، إذ عمدت بعض الدول إلى تحديد سلطات المركز وحصرها، ثم ترك المتبقي للولايات، وآثرت أخرى عكس الآية، بالتركيز على السلطة القومية وتقويتها وخصها بسلطات أكبر وموارد أوفر. ü وبمقارنة الصلاحيات القومية الواردة في كل من الدستوريين قيد النظر، نجد أن هناك قواسماً مشتركة تكاد أن تكون من الثوابت في التجارب الفدرالية العالمية، والتي تحرص على إنفراد السلطة القومية بالاختصاص في مجالات الدفاع والقوات المسلحة والأمن الوطني والقوات النظامية الأخرى، وكذلك العلاقات الخارجية والحدود الدولية، والجنسية والجوازات وشؤون الأجانب والعملة الوطنية والرقابة على النقد الأجنبي، والبنك المركزي، والطيران المدني، والشحن البحري، وتحديد الأجور لمنسوبي الخدمة المدنية، والقضاء القومي، والموازين والمقاييس والمواصفات، والعلم الوطني، والطواريء القومية، والتخطيط الاقتصادي، والنظم الانتخابية، وحقوق الملكية الفكرية، والمشروعات والاراضي والغابات والثروات القومية، والمفوضيات والمؤسسات الدستورية القومية، ونظم الاتصالات والبريد، والمرافق العامة القومية. ü ونواصل بإذن الله الحديث عن الحكم الاتحادي.