سهرة حوار رمضانية مع والي الخرطوم نظمها رئيس تحرير «آخر لحظة» الأستاذ مصطفى أبو العزائم ومديرها الأستاذ علي فقيري، وحضرها معظم محرري الصحيفة وكتابها، الذين اجتمعوا في حضرة الدكتور عبد الرحمن الخضر ومعاونيه ومستشاريه في مجال النقل والمواصلات والطرق والمرور، فكانت جلسة استثنائية سادتها روح المصارحة والشفافية وغلب على طروحات جل المتحدثين - بما فيهم الوالي- نهج الوضوح والتسامح وتدافع الرأي والرأي الآخر دونما وجل أو مداهنة أو مجاملة. وتلك كانت المرة الأولى التي التقي فيها والي الخرطوم الخضر منذ تعيينه وحتى بعد انتخابه. ابتدر الوالي الجلسة -التي ترأسها أبو العزائم وتولى توزيع فرص الحديث فيها- ابتدرها باستعراض ورصد المشكلات التي صادفته منذ أن تولى منصبه، واقترح أن يبدأ الحديث والنقاش بمسألة مواصلات العاصمة ومن ثم قضية المياه وقضايا الغلاء إذا ما كان في الوقت متسع. فاعتبر مشروع الباصات ضمن واحدة من المعالجات التي يراها لأزمة المواصلات والازدحام المروري وحالة الاختناق التي تعاني منها طرقات العاصمة، والتي حدد ثمانية محاور لمعالجتها. لكن الحديث ما فتئ أن انصب جله على هذا المحور بالذات، الذي رأى فيه أزمة لابد من مواجهتها والتغلب عليها بمختلف الحلول والمعالجات، ومن ثم أتاح الفرصة للحضور للإدلاء بآرائهم ومساهماتهم فوقع اختيار الأخ أبو العزائم عليًّ لأكون أول المتحدثين.بدأت مداخلتي بالقول إن سعادة الوالي الدكتور عبد الرحمن الخضر تفضل مشكوراً بالحديث عن معالجات الأزمة التي تعيشها عاصمتنا الوطنية وحدد محاور العلاج الضرورية، خصوصاً فيما يتصل بأزمة الازدحام المروري والاختناق الذي تعانيه الخرطوم، وهي أزمة استطالت واستفحلت، والأجدر عندي أن ننظر في أساسها ومسبباتها حتى يجيء العلاج ناجعاً وفعالاً، فالحديث عن «المعالجات» يعني أن هناك مشكلة، وأن هناك مرض ينتظر التدخل العلاجي أو الجراحي العاجل لإنقاذ المريض. وجميعنا يعلم أن أعراض هذا المرض ومظاهره قد تبدت في حالة الاختناق والازدحام الذي تسببه الآلاف من وسائل النقل الصغيرة من حافلات متوسطة وصغيرة وأصغر منها نزولاً حتى «الركشات». وإني لأعجب لمدينة عرفت المواصلات المنظمة ذات السعة الكبيرة منذ الخمسينيات وعرفت النقل الكهربائي بواسطة «الترام» قبل ذلك، وربما كانت الأولى في هذا المجال في أفريقيا جنوب الصحراء، أعجب أن يبلغ تدهور قطاع النقل فيها حداً تصبح مكباً للحافلات المنتهية الصلاحية في بلدانها لتنقل من مقابر السيارات لتتبختر في عاصمة السودان.قلت: إن ذلك لا يمكن أن يكون قد حدث بالصدفة، ولابد من توقع مدخلين تسربت منهما الأزمة، الأول: سوء إدارة لازم العاصمة والبلاد عموماً، باعتبار العاصمة هي عنوان الوطن جملة، والثاني هو فسادٌ ومصالح لجهات بعينها رأت في هذه الفوضى المرورية وحالة الارتباك واستيراد السيارات والآليات ذات السعات المحدودة فرصة مواتية للثراء، غض النظر عن الأضرار الناجمة عن ذلك من مضاعفة لاستهلاك الوقود وقطع الغيار أو التلوث المنبعث في سماء العاصمة وأجوائها. وأضفت: أنني لا أرى سبيلاً أمام الوالي غير قرارات حاسمة ومؤلمة في هذا الصدد، صحيح أن هناك قطاعاً من المواطنين والأسر يمكن أن تتأثر بمثل هذه القرارات، ولذلك أسميناها «قرارات مؤلمة»، ولكن لا سبيل آخر غير السير بمشروع الباصات ذات السعة الكبيرة والنقل المنظم والمواكب للتطور الحضاري ومحاولة استشراف النقل بواسطة المترو والقطارات المدينية، مع محاولة الاستفادة من الصالح من الحافلات والمركبات المتوسطة والصغيرة في العمل بالأحياء الطرفية والضواحي، خصوصاً ونحن نعلم أن معظم من يمتلكون هذه الحافلات يشكون مر الشكوى من ضعف مردودها الفعلي ويتجشمون الصعاب في سبيل الحفاظ عليها، فهي كما يقولون «تبتلع» القليل الذي تنتجه في قطع الغيار والإطارات وأجور العاملين وتكاليف الترخيص ومواجهة الجبايات والمخالفات، هذا إذا لم تتعرض لحادث مروري وسط التزاحم والسباق على التقاط الركاب.أما حول مشروع الباصات الجديدة، فقد أوضحت أنني ظللت أتابع المشروع منذ أيام الوالي المتعافي والعثرات التي مر بها حتى بدأ العمل فيه فعلياً في عهد الوالي الخضر، وسجلت بعض الملاحظات حول أداء الدفعة الأولى من هذه البصات، وهي (200)،تمّ إهداء (10) منها لمدينة جوبا ضمن «عرابين الوحدة الجاذبة»، وأنها حتى الآن غير كافية لتغطية المسارات الخمسة عشر التي حددت لها، كما أنه لم يتم توفير التحضيرات والتجهيزات الضرورية حتى تعمل هذه البصات بكفاءتها التصميمية الكاملة، فلم تجهز محطات الوقوف مسبقاً ولم تجهز ورشة للصيانة، كما تم استيعاب السواقين على عجل وعددهم أكثر من (400) في ظرف أسبوع واحد مما عرضها للحوادث وسوء الإدارة، كما استعيض بنظام «الكماسرة» عن نظام «التذاكر الاليكترنية» وهذا يعني تكلفة إضافية. هذا بعض ما قلته من ملاحظات، دار من ثم جل النقاش حولها، بروح طيبة، حيث سرد مدير مواصلات العاصمة علي الخضر، تفاصيل تجربتهم التشغيلية على الدفعة الأولى من الباصات الجديدة، وأمن على معظم ما جاء في مداخلتي، ولكنه اعتذر بأنهم لا زالوا في طور التجريب والدراسة تمهيداً لاتخاذ جملة من القرارات تتعلق باعتماد باصات تنتج في بلاد معينة تناسب أجواء البلاد وظروف التشغيل والطرق، وأنهم بدأوا العمل في تحديد المحطات المظللة وتركيب بعضها على الطرق، كما أنهم استلموا «ورشة أبو رجيلة» التي كانت تعمل في الماضي لخدمة مواصلات أبو رجيلة وأعادوا إحياءها وتجديدها لتكون في خدمة الباصات الجديدة، بما فيها من محطة وقود ومغاسل وإمكانات مهملة. أكثر المتخوفين والقلقين من فكرة المشروع كان ممثل نقابة الحافلات فهو يريد للمشروع أن يبدأ ويعمل ونقابته تمتلك حصة في رأسماله أكبر مما تمتلك الحكومية التي حصرت حصتها في (19%)، حتى لا يتم تصنيف شركة مواصلات العاصمة ضمن «القطاع العام» وتخضع بالتالي لنظمه وقيوده ومحدداته، فممثل نقابة الحافلات لا يعارض المشروع من حيث المبدأ، ولكن كما قال لا يريده أن يكون خصماً على عمل الحافلات، ما اضطرني لمقاطعته أكثر من مرة بأن ما يطلبه مستحيل، فمشروع الباصات ذات السعة الكبيرة نبعت فكرته وجاء أساساً للتخلص من حالة الزحمة والارتباك والتلوث الذي تحدثه الحافلات، ومواعين النقل العام ذات السعات الصغيرة وكل السلبيات المترتبة عليها. فبدأ لي الرجل في حال من يريد التهام الكيكة والاحتفاظ بها في آن معاً!الحديث أيضاً انتقل لوقت قصير حول طرق العاصمة ومشكلاتها، وهنا أيضاً أدليت بدلوي و قلت للحضور وللسيد الوالي إن الطرق هي أكبر مدخل للفساد وللسرقات، وضربت مثلاً بطرق العاصمة القديمة منذ مطالع القرن العشرين «القصر، الجمهورية، الجامعة، البلدية» وكيف أنها ظلت طوال هذه العقود ثابتة وراسخة، بينما الطرق الجديدة يبدأ الانهيار في أولها قبل أن يكتمل رصف آخرها نظراً للتلاعب في المواصفات والمعايير المطلوبة لتجعل منها طرقاً قابلة للحياة والاستمرار. ولم يكن هناك متسع للحديث عن القضايا الأخرى -المياه والغلاء وقفة الملاح- كما كان يلح صديقنا الحميم مؤمن الغالي الذي رطبت قفشاته وخفة دمه أجواء اللقاء وأضفت عليه بعض المرح برغم جدية وحدة وصرامة الموضوعات المطروحة للنقاش. النتيجة أننا وجدنا أنفسنا -كصحافة- أمام والٍ رحب الصدر وعلى استعداد كامل -كما قال- لأن يسمع ويتفاعل مع ما تقوله الصحافة ومع مصادره الأخرى للحصول على المعلومات قبل اتخاذ القرار، وإنه في كل الأحوال فإن للصحافة موقع خاص لديه، لأنها كما أوضح الأكثر التصاقاً وتداخلاً مع المجتمع وقضاياه بشكل تفضيلي. والخلاصة أننا سهرنا «ليلة ديمقراطية» في صالون الوالي الخضر فله وافر الشكر والتقدير، ولعلها «فاتحة خير» في هذا الاتجاه.