المسيرة التي قررت أحزاب مؤتمر جوبا وقوى المجتمع المدني تنظيمها اليوم لمخاطبة البرلمان وحثه على الإسراع في إجازة قوانين التحول الديمقراطي والاستفتاء على تقرير المصير من أجل تهيئة الأجواء الملائمة لإجراء انتخابات حرة نزيهة، كإحدى المدخلات الضرورية لعودة الاستقرار وتعزيز العملية السلمية جنوباً وغرباً وشرقاً على قاعدة اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي، تأتي بمثابة أول اختبار حقيقي لمدى التزام الحكومة - وكذلك المعارضة- بالنهج الديمقراطي الذي ارتضاه الجميع مخرجاً عقلانياً وواقعياً لأزمات البلاد المتراكبة والمتشابكة. فمسيرة اليوم لا تعني طرفاً أو حزباً أو فئة دون أخرى، كما أنها من المفترض ألا تستهدف طرفاً دون آخر، فهي -كما هو معلن- تطالب بتصحيح القوانين وتعديلها بما يتواءم مع الدستور، كما أنها تأتي في وقت أشرفت فيه عملية التسجيل للانتخابات على منتهاها، لندخل من ثم إلى مرحلة الترشيح والحملات الانتخابية. وكما هو معلوم للجميع فإن تلك القوانين قد تأخرت لسنوات متوالية ومتطاولة منذ توقيع اتفاقية السلام في (2005)، بينما كان يمكن للبرلمان، إذا صدقت النوايا وصح العزم منه، أن يجيزها في أول ستة شهور بعد وضع الدستور الانتقالي موضع العمل، وكان من الممكن أن تكون هي فاتحة أعماله عوضاً عن إجازة قوانين أقل أهمية لتعزيز المسيرة الديمقراطية المنشودة. تخرج مسيرة اليوم تحت أنظار العالم. فالعالم يراقبنا بكاميراته وفضائياته وأقماره الصناعية وأجهزة اتصالاته السريعة والعابرة للقارات. يراقبنا ليس ليتحسس أو يتجسس علينا، ولكن ليرصد مدى التزامنا ودرجة صدقيتنا فيما التزامنا به أمامه من مواثيق وعهود وأشهدناه عليها طوعاً واختياراً و أودعناها لدى مؤسساته وهيئاته الدولية وفي مقدمتها الأممالمتحدة. بعض أطراف حزب المؤتمر الوطني الكارهة لكل حراك ديمقراطي، رأت -يا للمفارقة- في خروج مسيرة(سلمية) -كما يزعم منظموها-عملاً يهدف(لعرقلة) الانتخابات المقبلة، بينما الهدف الأساسي للمسيرة المذكورة هو (تيسير وتسهيل) قيام انتخابات حرة ونزيهة، لا تعرقلها أو تعوقها المخالفات، فالمطالبة بتصحيح القوانين وإنجاز هذا التصحيح بما يتواءم مع الدستور هو الذي يهيء المناخ الصالح لتلك الانتخابات المرجوة. ورفض التصحيح والمواءمة هو (العرقلة) الحقيقية والولوج إلى«انتخابات شكلية» تعقد الأزمات وتزيد الأوضاع ضعثاً على إبالة. وإذا كان من الممكن تفهم سريان قوانين تخالف الدستور لوقت معين، لأنه لا يمكن أن تعمل الدولة في فراغ أو بلا قوانين، مهما كانت معيبة، إلا أنه لا يمكن لعقل راشد أن يقبل أو يفهم استمرار القوانين المخالفة للدستور طوال الوقت، خصوصاً إذا كانت قوانين تمس أو تقيد الحريات الأساسية التي نص عليها الدستور وأفرد لها وثيقة خاصة أسماها «وثيقة الحقوق» - THE BILL OF RIGHTS-؛ وذلك نظراً لاهميتها وضرورتها لقيام وطن ديمقراطي وصيانته وتأمينه بأقوى الضمانات الدستورية. وذلك يجعل من المسيرة المطالبة بإجازة تلك الحقوق ووضعها موضع العمل كقوانين منظمة للحياة وللحراك السياسي والإجتماعي مسيرة تنشد السلام والاستقرار الذي يتعزز بالإجراءات الديمقراطية وفي مقدمتها -طبعاً- الانتخابات الحرة التي يتساوى فيها الجميع - حاكمون ومعارضون- في فرص الوصول إلى الناخبين والتبشير ببرامجهم وأفكارهم دونما حجر أو تضييق. أمامي الآن «وثيقة الحقوق»الدستورية التي تقول في تعريفها بنفسها في الديباجة بأنها«تكون وثيقة الحقوق عهداً بين كافة أهل السودان، وبينهم وبين حكوماتهم على أي مستوى، والتزاماً من جانبهم بأن يحترموا حقوق الإنسان والحريات الأساسية المضمنة في هذا الدستور، وأن يعملوا على ترقيتها، وتعتبر حجر الأساس للعدالة الاجتماعية والمساواة والديمقراطية في السودان، بل تلزم الوثيقة في مادتها الثانية الدولة بأن «تحمي هذه الوثيقة وتعززها وتنفذها» وأكثر من ذلك تنص في مادتها الثالثة على اعتبار «كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان المصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزء لا يتجزأ من هذه الوثيقة». أما فيما يعنينا هنا تحديداً، فإن الوثيقة تنص في المادة (40/1) منها التي تحمل عنوان«حرية التجمع والتنظيم» على أن يكفل «الحق في التجمع السلمي، ولكل فرد الحق في حرية التنظيم مع آخرين، بما في ذلك الحق في تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية أو الانضمام إليها حماية لمصالحه». وذلك يعني باختصار أن لكل شخص الحق في أن يعقد اجتماعاً سلمياً وأن يتجمع سلمياً وأن ينضم إلى تنظيم سلمي مع الآخرين لحماية مصالحه، كما يقول شارحوا الوثيقة. لسنا غافلين- بالطبع- عن الحساسية المفرطة لدى السلطات إزاء التجمعات الجماهيرية والتظاهرات التي ينظمها المعارضون، وذلك من واقع الأزمات والتعقيدات التي شهدتها وتشهدها البلاد في ظل سنوات طويلة من غياب الممارسة الديمقراطية، تلك الأزمات والتعقيدات التي قادت البلاد في أوقات سابقة إلى مواجهات عنيفة ومسلحة وإلى تفلتات بعض القوى المتمردة. لكننا نرى أنه قد آن الأوان- ونحن على مرمى (ورقة) من صناديق الاقتراع- ل«ثيرموميتر» هذه الحساسية أن ينخفض إلى المستوى العادي ويؤشر إلى اللون «الأخضر» بدل «الأحمر أو الأصفر»، وذلك يتطلب ممارسة راشدة وسلوكاً عقلانياً من الجانبين، من جانب الحاكمين الذين يسمحون بتسيير موكب «سلمي وهاديء» يرعونه ويؤمنونه ويحمون الممتلكات العامة والخاصة من أي أذى أو أضرار قد يقدم عليها بعض المتفلتين أو الغوغاء، وكذلك من جانب المعارضين المنظمين للمسيرة، بحيث يرتبون صفوفهم وحركتهم بما يمنع كل تفلتات أو تخريب يؤذي قضيتهم ويدفع تحركهم بالفوضى والتهريج، وأن تصوب شعاراتهم ونداءاتهم ولافتاتهم«للقضايا الجوهرية» التي خرجوا من أجلها والابتعاد عن العنف البدني أو اللفظي الذي يفجر العواطف والضغائن والأحقاد، ويوفر الذرائع لاعداء التحول الديمقراطي. نريد اليوم أن نرى تمريناً ديمقراطياً سلمياً، يكون بمثابة إحماء للحملات الانتخابية المنتظرة.. فالعالم- كما قلنا- يراقبنا وسيحكم على سلوكنا أينما كان موقعنا.. في الحكم أو في المعارضة.