طبيعة العرب والمسلمين- ونحن منهم- في صراعاتهم، خاصة في عصور الانحطاط، طبيعة حشرية تعبوية تضع كل المساوئ في الطرف الآخر دون اعتبار لماضٍ أمر الله بمراعاته، ولا تنسوا الفضل بينكم-البقرة أو مستقبل لابد من أخذه بعين الاعتبار (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت.... أو كما جاء في الحديث الشريف (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بفيضك يوماً ما وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك هوناً ما!! يرى بعض الناس القدرة على التحدث بالأخطاء ورفع الشعارات دون دفع الثمن!! إضافة للبعض الذي لا يرعى الحدود الدنيا من حسن الاختلاف وأدبه، وذلك كله نتيجة لذلك (التثقيف الحماسي) من جهة، ووجود من يعتقد أن الوطنية هي الهجوم على الآخرين دون هوادة أو تعقل ووصمهم بالخيانة والعمالة والارتزاق !! لا غرو فإن فتنة الخليج الثانية قد تجاوزت كل شيء لتستدرج القيم الإسلامية في الأخوة- العدل-التحرر-الولاء-البرء- الجوار والجهاد وغيرها الى ساحة الصراع، ولم يفلح دعاة الإسلام لحمايتها- لا ينبغي أن نتخذ كمسلمين في التكفير والتفسيق والتبديع أدوات في الرد على خلافاتنا الاجتهادية وفي أمور دنيانا، فالحوار والمزيد من الحوار ومقارعة الحجة بالحجة هي الوسيلة الأوجب والأنسب، بل والأفضل للتواصل بيننا كمسلمين ومع كل مواطنينا.. نحن أهل السودان والاسلام أولى خلق الله بالسماحة واتقان الحوار، فالمولى عز وجل يأمرنا بذلك (وجادلهم بالتي هي أحسن) والإسلام لم يدخل بلادنا إلا بالتي هي أحسن، وإن نفي الآخر وإسقاط الحوار واعتماد العنف لفرض الرأي والرغبات والمطامع، هو نمط من أنماط التعامل الظلامي مع الواقع، سواء تبنت الظلامية هذا الشعار أو ذاك أو حملت هذه اللافتة أو تلك، وبرغم التباين الزاعق في أنماط الشعارات واللافتات والايدلوجيات أيضاً. إن إصلاح العقل السوداني يحمل معه بالضرورة إصلاح الواقع، وهي ليست نظرية قديمة في الفلسفة، ابتدعها سقراط، حيث آمن بوحدة النظر والعمل وعززها افلاطون ومن ثم استأنفها ريكارت... إن حسن قيادة (العقل) توضح لنا أن هناك عجزاً صارخاً في حياة الإنسان السوداني بين النظر والعمل بين القول والعقل، لماذا نقول ما لا نفعل؟ ولماذا نفعل ما لا نقول؟ حتى أصبح الإنسان عندنا (قول لا فعل)!! إن قراءة الواقع وتقويم الأدوار تحفل بمفردات الفشل والإحباط والاستلاب فضلاً عن الصدمة والفجيعة والكارثة (التقيمة الاجتماعية) المتمثلة في النفاق المراءاة- المجاراة والملق كلها وليدة الخوف من وهم السلطة، وتسلط الحزبية والانصياع لها، وهذا أس البلاء عندنا حتى العلم أضحى لا يخلو عندنا من الافتراءات واخفائه الحقائق أو تضخيمها، خاصة إذا ارتبط بمآرب سياسية ومصالح اقتصادية- لا شك إننا نعيش اليوم في زمن صعب- لكن- والكلمة للأديب الروسي انطون تشيخوف: (متى لم تكن الإنسانية في زمن صعب)؟ إن حوافز الوجود أوفر من احباطات الوجود!! ونحن لسنا أول من هزمت محاولاته، إن الفشل والتعليم من دروسه كان المصباح الذي أنار الطريق السليم لمن سلكوه فيما بعد، وحققوا أحلامهم إن القليل من التفاؤل ليس مطلباً لذاته بل هو إقرار بجدارة النور، حينما كان في ثنايا الظلام وتكريس لمزيد من النور المأمول... إننا بإجماعنا على (الحل السلمي والسياسي لقضايانا) قد اخترنا الطريق الأيسر والأقصر، والذي يرى غير ذلك سيحس يوماً بضرورته... فما دام الرأي العام الغالب لأهل السودان كله مع الحلول السلمية فإن ضغط الرأي العام هو كالهواء نحسه ولا نراه، أثره بلا شك لا يعرف الحدود بل يلزم لكل.لا سبيل لانكار أن العمل السياسي غير الرشيد كان وما يزال من الأشياء الأساسية لضعف واستلاب روح المواطنة، التي تعلي من قيم الحق والفضيلة وهي التي تستنهض الإحساس بالواجب والتصدي لمستلزماته، ذلك بالإضافة الى ضعف التربية الوطنية مع التناحر والتنافس الحزبي دون الاهتمام بالتربية السياسية السليمة، مع عدم التمسك بأخلاقيات العمل العام هو أصل الداء في بلادنا.. إن هناك فشلاً هيكلياً في تفكيرنا السياسي ينحصر في عدم وضع تصور سياسي للدولة الحديثة والدعوة اليه، والسعي الجاد لوضع حد أدنى للاتفاق الجمعي على الثوابت الوطنية، لنؤكدها ونختلف بعد ذلك فيما عداها.. إن عدم الالتفات لهذا الأمر الضروري على مر الأيام وتعقب السنوات منذ الاستقلال حتى تاريخه ليس هو ضعف في التنظير، بقدر ما هو التفات الى أولويات ادخلتنا في هذه الدوامة، أولها من يحكم السودان؟ وأين وضع حزبي وجماعتي؟.. بل وضعي أنا الشخصي.. إن هذه (الأنا المغلظة) هي نكبة السودان.. التفكير المؤسسي الديمقراطي ما زال عصياً على فكر كل سياسيينا.. هناك حكمة تقول: (نحن نشكل أنانيتنا أولا ثم تشكلنا هي بعد ذلك)، فماذا فعلنا نحن من أجل تشكيل أنانيتنا هذه؟ لا شيء لا شيء البتة!! فبدلاً من التفكير في (الأوضاع) ينحصر تفكيرنا في (التموضع)، وعليه ظللنا نراوح مكاننا- إذا نظرنا الى حل المشكلات التي ادعت كل الانقلابات التي حكم الجيش من خلالها بلادنا نجدها قد تعللت باصلاح ذات القصور الذي زعمت الثورات الشعبية عندنا بحسمها وكذلك الأحزاب، وهي تنحصر في: - فشل الدولة في تقديم الحد الأدنى من الخدمات الأساسية في المأكل والمشرب والملبس والتعليم والعلاج. - الحد من تزايد الهجرة لأهل الريف للمدينة. - محاصرة العطالة وتفشي الأمية. - إيقاف تراجع الطبقة الوسطى وتفعيلها الاجتماعي تدهورالوضع في الجامعات بعدم توفير متطلبات البحث الحفاظ على أمن وسلامة المجتمع ومكافحة الجريمة. - إعطاء السلطة كاملة للشعب والحفاظ على مكتسباته ورغم التغييرات المتتالية لأنظمة الحكم في سوداننا، ليت الأمور ظلت كما كانت عليه ولم تتدهور بمنظومة كل عام ترزلون.الحركة السياسية في بلادنا على شاكلة الحركات السياسية في عالمنا الثالث هي: حركات احتجاجية تريد تفسير الشيء القائم الى شيء آخر ليس بالضرورة معروفاً محدداً وواضحاً، والتفكير السياسي التقليدي فيه تغييب لقدرات الإبداع الذاتي، وفقدان الثقة بالنفس على مستوى الأفراد والجمع، ومن ثم استلاب الإحساس بالحضور وإشاعة لأخلاق التواكل والتبعية، والغاء لمعنى التمرد وضرورة السؤال!!د. طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي يقول:نحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب - أعوذ بالله من الكذب والكذابين- فقد ملأوا علينا الدنيا يقول الحديث:(إن الإنسان ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا).ختاماً أقول لكم ومن خلال (دبلوماسية الميكرفونات) والتي نهيت عنها في مقال سابق: لا خلاص من ما نحن فيه من تخاصم- تدابر ومكايدة ومضيعة للوقت وللوطن، سواء بحوار وطني بناء يضم الجميع، فالسودان لنا جميعا بلا اقصاء أو تهميش.. فالتمايز والتنوع وحتى الاختلاف الصحي الإيجابي هو مصدر ثراء وغنى..فدعونا فقط نبدأ الحوار فسيتواصل.. وحتى لا نكذب على بعضنا أقول لكم وباللغة الايطالية لأول وآخر مرة: (بامبينو فاما) ومعناها بلغة العرب هنا (الطفل جوعان) فيا غياث المضطرين أغثنا من خبث أنفسنا.. حقاً أن الدعاء لله خاتمة عمل وليس بداية قول.