(نظرة واقعية لعلاقة أزلية) إن العناصر التي تحدد لأي وطن أو أمة خطوط استراتيجيتها العليا هي: الجغرافيا-التاريخ- الانتماء- ضرورات الأمن والمصالح العامة. صحيح إن علاقتنا بمصر علاقات أزلية، تاريخية وحميمة، وأننا العمق الأمني لمصر، كما هي لنا عمق أمني وأننا شعب بوادٍ واحد تربطنا صلة الدم والقربى والتاريخ ووحدة المصير.. ولكن!! الأصح هو أن كل علاقة لا تؤدي وظيفة اجتماعية، اقتصادية وسياسية حية وفعالة تنكمش وتضمر، ثم تموت، ذلك هو قانون البقاء ذاته. إن النظرة التقليدية للأمن على أساس أنه الحماية بالسلاح، واتفاقيات الدفاع المشترك والأخلاق العسكرية نظرية لاستعمار جديد داخلياً كان أم خارجياً.. وهي بالتالي تستدعي خلق تحالفات مضادة لبعض الجيران ممن يتوجسون خيفة من أي نوع من هذه التحالفات على أساس أنها تشكل هاجساً أمنياً لهم. إن الدفاع عن الأوطان هو في المقام الأول والأخير يتم بوحدة الصف والكلمة.. بوحدة الجبهة الداخلية. والإحساس الصادق العميق بالمواطنة الحقة التي تؤمن الشراكة في الوطن يتقاسم خبراته والسلطة فيه.. وليس بالتسليح والحشد والاستنفار، فالذي يحس بأن هذا الوطن ملك له ولغيره بالتساوي، يفديه بكل مرتخص وغالٍ.. والذي يحس بغير ذلك لا يعيره اهتماماً. العلاقات الحيوية تتسم بالقداسة نتيجة لزومها لحركة التطور والنماء وتبادل المصالح.. ولكنها بدون ذلك تنقلب إلى نوع من التعاويذ والتمائم والأصنام.. قباب ليس تحتها أولياء.. والحفاظ على المصالح وصونها من عاديات الزمن، وتربصات الأعداء من أوجب الواجبات.. وذلك لن يتم إلا باستراتيجية أمنية متكاملة، تصبح ديدباناً يحمي هذه العلاقة ويحتمي بها. لم يتقدم شعب من الشعوب أو أمة من الأمم إلا بعد أن استطاع- بالفكر الحر والمفتوح- أن يصل إلى نوع من (التراضي العام) الذي يقطع ويحسم عدداً من مقومات وجوده.. ثوابت لا يستطيع أحد تغييرها بإرادة فردية أو بجرة قلم.. إن الاستراتيجية العليا لعلاقتنا بمصر يجب أن تتصل إلى كونها غير قابلة للتغيير، على الأقل في جانبها الأمني والقابل للتغيير فقط في أساليب الحركة لتحقيق الأهداف (الآليات والوسائل) التي تؤمن ضرورات الأمن المشترك بيننا.. والأمن هنا بمعناه الأوسع اقتصادياً، اجتماعياً، سياسياً، وغذائياً وغيره. ü الوصول إلى الثوابت الاستراتيجية للعلاقة: الذي نحتاجه فعلاً الآن، وفي الغد القريب والبعيد هو الحوار المفتوح المتواصل، لأنه أمان المفاجأة لاستكشاف الأفق الوطني والقومي كله.. والحوار المفتوح المتصل يوسع من دائرة الاختيار لأنه يطرح البدائل ويعطي حرية في الحركة وفي التصرف وفي اتخاذ القرار. إن أسوأ ما يمكن أن يواجه أمة هو أن تجد أمامها ظروفاً معينة، ولا تجد أمامها إلا خياراً واحداً، وطريقاً واحداً للتصرف لا بديل له، كأنه حكم المقادير لا تملك إلا الاستسلام له. إن المجتمعات تصل إلى الثوابت الاستراتيجية العليا لسياساتها وعلاقاتها: بالفكر، والتجربة وعن طريق الحوار الواسع، المعمق، المتواصل، تقوده وتبتدره أكثر عناصرها استنارة، وقدرة على الرؤية الصافية.. وهذا ما يجب أن يتبناه مجلسنا الوطني الموقر كممثل لهذا الشعب. في علاقتنا مع الشقيقة مصر لابد أن نقر وبوضوح وعقلانية: بأن الحوار عندنا لم يتصل، وإنما تقطع.. وفي كل مرة نعود وكأننا نبدأ من جديد.. من فراغ.. فبسبب تقطع الحوار، لم يتعطل فقط اتفاقنا على «الثوابت» وإنما عجزنا عن البت في القضايا الحيوية.. قضايا كان يجب أن نفرغ منها ونتركها وراءنا محسومة ومقطوعاً في أمرها. التواصل الإنساني والثقافي والاجتماعي: إن التواصل بمعناه الواسع بين مصر والسودان كان ولا يزال وسيظل سمة من السمات التي لا يمكن تجاوزها، أو التقليل من شأنها منذ عهد الإهرامات بالبجراوية والجيزة وما قبلهما.. منذ تهراقا وحتشبسوت.. والمهدي وعرابي.. وهذا التواصل وحده هو الذي يوحد بين الأمم.. ويصهرها وقوى من إرادتها في التآخي والتكامل والوحدة.. وهو الشيء الذي يحتاج منا للرعاية والعناية والتوجيه، والإرادة السياسة الفاعلة المقتدرة، التي توجهه وتقف من وراء انفاذه، وإفساح المجال واسعاً للتمازج الثقافي والاجتماعي الذي يولد الوحدة من خلال التنوع.. والاحترام المتبادل بين الشعوب بلا ترفع أو نظرة دونية. السلام والوحدة والتنمية: هذا هو المحك الحقيقي للعلاقة السودانية المصرية.. ودور مصر الشقيقة فيه يجب أن يكون بقدر مصر وقدرها.. فصناعة السلام كوسيلة للتنمية والوحدة يجب أن يكون هم كل فرد من أفراد وادي النيل.. وأي تفريط في هذا الهم وحمل تبعاته، هو تفريط في حلم المستقبل وتطلعاته.. فلنكن جميعاً على قدر هذا الواجب: فهماً ودراسة وعملاً من أجل تحقيقه.. وليكن عملنا في صمت دون تفريط أو إفراط بلا منٍ أو أذى.. فلتتضافر الجهود لاجتياز الاختبار في رسم الصورة التي نتمناها لشعبنا في العزة والحرية والوحدة والكرامة.. وهذا لابد له من آلية تشحذه وتوجهه بمزيد من الرعاية والتنسيق والتشاور على أعلى المستويات.. وبهمة لا تعرف المستحيل. الحكمة تقتضي ألا نتعجل الأمور، فإن أهرام علاقتنا مع مصر يجب أن يُرسي عمادة بروية ووضوح واتفاق متكامل، ويكتمل بناؤه ببصر وبصيرة وحكمة ليظل شامخاً أبداً.. إن المومياء والمستودون (الحيوان البائد الشبيه بالفيل) كانا قد حدقا يوماً في النيل: الذي لم يهدأ، أو يجدف، أو يتجمد، أو يستكين للحظة.. منذ ذلك الزمن السحيق.. وعليه يجب أن نحسن جميعاً نحن عمار هذا الوادي وحماته، وأهل الحق الأصيل فيه.. تنمية اقتصادية، ومنعة أمنية، وتطويراً لبيئته وإنسانه مستقبلياً ليكون أنموذجاً إقليمياً ودولياً يحتذى.