يبدو أن مقولة «أسبح مع التيار» هو ما تمر به حالة السودان مع مصر هذه الأيام، تجديداً للعلاقات الأزلية التي تربطهما ببعض، وعوامل اللغة والدين والجوار، وفوق ذلك النيل الذي يهب الحياة لشعبي الدولتين يمثل جسراً يمهد للخطى. وبما أن النيل بكل خيره وألقه يجري من جهة الجنوب نحو الشمال فرحاً وطرباً بذاك الدفق والدفء، فكذا تجري العلاقة بين الدولتين انسياباً مع هذا القدر الحتمي الذي يربط الدولتين. ومنذ بدء الخليقة فإن الإرتباط بين هاتين الدولتين قائماً وجدانياً وثقافياً واجتماعياً بل حتى الدين الذي ينغرس بأفئدتنا هب من ذاك الجانب.. ولم يترك الشعبان لهذه العلاقة أن تكون فقط ملقية على الطبيعة، بل جسدوها مشاركة وتفاعلاً ورؤى، وقد غنوا لها «مصر يا أخت بلادي يا شقيقة»، فكانت مصر مهوى قلوب السودانيين يرتضعون منها الثقافة والعلم وحتى الشفاء، ويكفي أن مصر تنتظر تلك الموجات المسافرة بعد أن تكون حطت رحالها على أرض السودان، وتعلقت بترابه وتشربت بحنانه، لتمازج تلك التفاصيل، ويصعب التفريق بينهما لتتحقق على شعبيهما تسمية شعبي وادي النيل، ليصبحا روحاً واحدة في جسدين. ورغم أن النظام السابق لارتباطه بمحور الشر في العالم، أراد أن يفسد تلك العلاقة بممارسة أجندة الأعداء، إلا أن هذا لم يؤثر في صلب العلاقة بين الشعبين، وهاهو منذ أن رحل النظام عن سدة الحكم إلا وتنفست تلك العلاقة الصعداء كما تنفس شعب مصر وتذوق طعم الحرية والخلاص. وهاهو أول رئيس منتخب بعد الربيع العربي الدكتور محمد مرسي يحط رحاله بالسودان لفترة يومين في أول زيارة ودية له لدولة، فكان ذاك الاحتفاء العظيم الذي قوبل به ليؤكد متانة العلاقة بين الدولتين، فمرسي في ظل تلك الظروف الحرجة التي تمر بها دولته لم يجد متكأ أفضل من ظهر أخيه السودان، ينصر ويتناصر به ويكفي ما طرح من برامج ومشاريع لو قدر لها أن تتحقق لغمر البلدين خيراً ونعيماً كبيراً.. فالسودان أرض بكر للاستثمار بما حباه الله من كنوز طبيعية خارج وباطن الأرض، وتلك المساحات المهولة الخصبة التي تتعطش للغرس والكنوز التي تحتاج للتفجير، ومصر بكل تاريخها وقدراتها يمكن أن تسهم بقدر وافر في تحقيق تلك الأماني التي تعود بالنفع على الدولتين. فإن نظرنا إلى تلك الزيارة من جانبها المعنوي فقط- في ظل تلك الظروف التي تحيط بالدولتين السياسية والاقتصادية- لرأينا فيها النفع لاسيما، والدولتان تريدان نفعاً لتمكين رؤاها العقدية والسياسية.. الأمر الذي يزيد من تقارب الأفئدة أكثر، وقد كانت هناك تجربة مماثلة لزيارة مرسي هذه، والأمة العربية تفجع بهزيمة ثقيلة من عدوالأمة والقائد العربي جمال عبد الناصر، لم يجد صدراً يدفن فيه أحزانه سوى السودان، فكان ذاك الزاد الذي قوى به عضده ليخرج مرفوع الرأس مستجمع القوى ليعود النصر، ولاءات السودان تقف شاهرة فكانت الزيارة تلك ترياقاً لجرح الهزيمة وشارة للنصر، فالسودان بلد يعرفه العرب والمسلمون بأنه بلد مواقف ومبادئ، لا يعرف التفريط فيها أو الحياد عنها، وهذا ما عظمه في نظر أشقائه، وبالمقابل ما فجر عليه حنق الأعداء الذين يرون في قوته سنداً وعضداً بغيره من المستضعفين، فتراهم على الدوام يسعون لإضعافه وشغله بنفسه حتى لا يتفرغ لمجابهة أجندتهم التي تستهدف عقيدة وأخلاق وخيرات الأمة.. ومن هذا المنطلق جاءت زيارة مرسي. إن الدولتين السودان ومصر في مقدورهما فعل الكثير إذا ما أحدثوا هذا التكامل، وتغاضوا عن كثير من الأصوات التي لا تريد خيراً لهذه الوحدة والتكامل بحكمة مع بعض الخلافات في الحدود أو غيرها، لتفويت الفرصة على المتربصين لهذه العلاقة وقتها، ويمكن أن يضم شعبي البلدين من ذاك التلاقي، وتلتئم عشرات الجراح التي ترقد على سطح العلاقة وتسير سفينة الأحلام إلى شاطيء الأمان. عندما طرحت الحكومة فكرة «الحكومة الالكترونية» كنا نستغرب هذه الكلمة.. وعندما تابعنا فصولها وفهمنا القصد منها أشفقنا عليها من الفشل ورغم أن الجهاز التنفيذي وعلى رأسه مجلس الوزراء ووزارته التي كان يجلس عليها كمال عبد اللطيف التي ترعاها، إلا أن حب امتلاك المعلومات لدى السودانيين أو موظفي الدولة تحديداً ظل هاجساً لهذه الفكرة، هذا بالإضافة إلى الهكر الذين يدخلون كل المواقع حتى الحساسة منها.. وما زلنا نتابع هذه الخطوات التي تسير ببط «سلحفائي» خاصة وأن المركز القومي للمعلومات الذي انتزعه مجلس الوزراء من وزارة الإعلام والمنوط به وضع الترتيبات للحكومة الالكترونية يجلس الآن «كنب»، فقد أدخلت بعض الأعمال التي كان من المفترض أن يقوم المهندسون الأكفاء الموجودون فيه بانجاز هذا العمل، وظني أنهم قادرون على إقامته، ولكن لا نعرف ماذا يريد القائمون بأمر الدولة به.. والله يستر. ولعل بوادر تلك الفكرة قد ظهرت جلياً في معرفة نتائج امتحانات الشهادة «الأساس والثانوي» من طريق الجوال أو الموبايل- كما يحلو للبعض- أو حتى عن طريق المواقع الالكترونية.. وباتت هذه الخطوة معروفة لدى الجميع، لكن الجميع لا يعرفون أنها ثمرة تلك الخطط.. وبقيت على فكرتي أن الحكومة اللالكترونية المنتظرة ستقف عند هذا الحد حتى علمت أن الجمارك السودانية قد دخلت هذه الخطوة ومن أوسع أبوابها، فقد أصبحت كل معاملاتها الكترونية وانتهى عهد تكدس المخلصين في «شبابيك» الجمارك وانتهى انتظارهم للساعات الطوال.. فمنذ عامين أدخلت نظام الاسكادا وأخذت فيه جائزة الآيزو.. ودربت منسوبيها على استخدامه بواسطة أجهزة «مجهزة» جيداً، وعملت كل الاحتياطات حتى لا يحدث فيها عطل أو اختراق.. أجهزة ونظام مذهل لكل من يشاهده، هذا غير الضباط والمهندسين الذين يتابعونه.. ولقد عرفت كل ذلك عندما تابعت بوليصة تخليص لأحد أقاربي المقيمين في دول المهجر، وأكد لي المخلص أنه يستطيع ادخال هذه البوليصة للجمارك في أي وقت «يريده» فظننت أن الجمارك أدخلت نظام الورديات في العمل الإداري، أيضاً فأكد أن نظام الحوسبة الذي اعتمدته الجمارك يمكنهم من ذلك، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل أن كل الإجراءات التي تليه تتم بواسطة ذلك النظام، حتى أن دفع قيمة البوليصة يتم بواسطة البنك ويرسل الإشعار وتتم المخالصة التي تنتهي بذهاب المخلص للموقع الذي فيه البضاعة أو المعاملة التي ذهب من أجلها للجمارك.. فقلت له إن هذه أحد ثمار الحكومة الالكترونية التي دعت لها أجهزة الدولة، وتساءلت إذا كانت الجمارك وهي إحدى الأجهزة الحساسة قد قامت بهذه الخطوة فما الذي يجعل بقية المؤسسات تتخوف منها؟..