مولع أنا بالأقليات.. أتعاطف معها بلا حدود، لذلك انتبهت الى ساكني الأرصفة ورواد مؤسسة هامش المدينة الموسومون (بالشماسة)، فعندما كنت في الثمانينات أعمل بمدارس الانجيلية ببحري..كانت نافذة مكتبي تقع على الشارع وكنت ارقب حركتهم وقد اتخذوا من المساحة المتاخمة للشباك مأوى لهم يحفظون فيه حاجياتهم الضرورية وهي قليلة على كل حال، خرق قديمة كانت في شبابها (بطاطين وملايات) كنت أرقبهم ليس من وحي حب الاستطلاع واشباع الفضول..بل بروح من المشاركة الانسانية.. وكم أطربتني حريتهم الفضفاضة بلا حدود. المرء الذي لا يعرف (الشماسة) يعتبرهم غارقين في الفوضى.. وان لا تنظيم البتة في بيئتهم لكنه اذا عرف حقيقتهم يجد أنهم مجتمع منظم للحد البعيد.. ومبدع ايضاً يتمثل ابداعهم في نموذج بسيط جداً اخترعوه بسبب المحافظة على خصوصيتهم ذلك هو (اللغة) التي يتحدثون بها..المليئة بالبلاغة اذا أخضعتها لدراسة أو مجرد ملاحظة موضوعية. ولكن اكثر ما لفت نظري في مراقبتي الحميمة الودودة لهم ..نظام القيادة..والتي لا تقوم كما نحسب على اختيار الأقوى... أو الأضخم بدنياً.. إنما لها ملابساتها وظروفها. ولن أنسى ابداً مشهداً لعصبة منهم فقد رأيت قائداً شماسياً صغير الحجم..ضعيف البنية يؤنب آخر ضخم ويكبره سناً وحجماً، بل انه قادر بضربة واحدة على محو هذا القائد الصغير من الوجود...ولكن على العكس تماماً..كان (المقود) أي الخاضع لقيادة الزعيم الصغير يذعن للتأنيب الذي وصل حد ان أخذ القائد الصغير يركله بقدمه على عجيزته وذاك يستكين في طاعة محيرة. ذلك المشهد الصغير هو مادة خام لدراسة ظاهرة القائد ومن ثم شروط القيادة وتطورها. ومما لا شك فيه ان القيادة كانت في عصر من العصور للأقوى بنية والأضخم لكن تطور المفهوم وإن مازالت بعض المجتمعات البدائية تلتزم باختيار القائد الأقوى بدنياً بسبب عدم تطور نظامهم الاجتماعي.. وهي موجودة في مجتمعات الحيوان أو الطيور وغيرها من كائنات مملكة الله البديعة على الأرض. موقفان حيراني ايضاً في مملكة الشماسة وهما يدخلان في باب القمع والشِّجار.. لاحظت أحدهم يضرب الآخر بقسوة وحوله يتحلق رهط الشماسة بكل ألوانهم ومعهم شماسيات ايضاً.. كانوا يتفرجون ولا أحد يتعاطف مع المضروب بشراسة!! حاول بعض المارة التدخل فوجدوا اعتراضاً شرساً من الجميع.. في عبارات مثل: ياحاج أمشي داير يكسروا ليك نضارتك مالك؟ أو يآ خينا اتخارج هسع الحجار بتجيك.. تعجبت من كونهم لا يتدخلون رغم ان الضرب كان عنيفاً..والمضروب كان ضعيفاً ..وكان الجميع يتفرج بحياد بارد ومغيظ. الموقف الثاني على العكس من ذاك أحدهم أخذ يضرب في الآخر الأضعف لكن هجموا عليه وضربوه..واوقفوه عند حده ذليلاً مضروباً. فقارنت بين الموقفين وتساءلت عن سر التناقض هذا..لكن قلت لنفسي ربما كان الفعل الذي بدر من الاول يهدد كيان الشماسة واستحق عليه المذنب ماجرى له وعلى ذات النسق فربما كان اعتداء الثاني يهدد أمن الجماعة..وكأن الفعل لا يستحق أو فيه (حقارة) أو (خيانة) ولم أجتهد في التفسير لكن عرفت ان للجماعة نظامها الصارم والمختلف..كما لها شريعتها الخاصة بها. من يدرس نظام (الشماسة) في ادارة شؤونهم..ونظام القيادة عندهم..والطاعة العمياء للقائد الذي يتم اختياره على أسس تستحق الكشف عنها(الشماسة) ظاهرة تستحق الإضاءة الموضوعية!