حي العرب أحد أشهر أحياء أم درمان العريقة إن لم يكن أشهرها على الإطلاق من كثرة ما أعطى البلاد من مبدعين في مختلف مجالات الإبداع الفني والرياضي لينطبق عليه قول أحد شعراء الحي «تلقى الدنيا حب والأيام طرب هنا في حي العرب» أو كما قال آخرون حي العرب «كفر ووتر» والفنان الذري إبراهيم عوض كان أحد درر هذا الحي. بأحد مساكن هذا الحي الشعبي الهاديء كان يقيم فناننا إبراهيم عوض وأسرته بالمنزل الذي شهد مولده وطفولته ومرتع صباه.. في أواخر العام 0002م وداخل صالون أنيق حليت جدرانه بالصور والوشاحات وتوسطته طاولة احتضنت آلة أورغن جلست وزميلي المصور الصحفي عبد الرحيم قيلي لمدة ثلاث ساعات لم يقطع تواصلها إلا تناول الساخن أو البارد أو أداء الصلاة أو تناول طعام الإفطار المكون من السمك المقلي والمشوي وما بينهما، وللسمك في حياة فناننا الراحل المقيم إبراهيم عوض قصة نحكيها فيما بعد. ٭ ولدت في عام 83 ووردي أكبر مني بسنة! ٭ في البداية كان السؤال عن البداية؟ - قال الفنان إبراهيم عوض بدايتي في الدنيا كانت في العام 83 يعني وردي أكبر مني بسنة واحدة «ضحكنا جميعاً من المقارنة». ٭ قلنا حدثنا عن الطفولة؟ - قال: كبقية أطفال الحي كنا نلهو كثيراً، نلعب البلي صباحاً ونسهر الليل مع شليل وينو وغيرها من ألعاب ذلك الزمان، عشنا طفولة صاخبة لعبنا كرة الشراب وكرة القدم وقد كنت معجباً جداً بخانة حارس المرمى ولولا إصابتي في إحدى المباريات لكنت أحد حراس المرمى المرموقين. ٭ خلوة الشيخ السوري: - قال: ألحقني والدي بخلوة الشيخ السوري وكانت مجاورة لمنزلنا وفيها حفظت شيئاً من القرآن وكمان «فكيت الحرف» في تلك الأثناء الحكومة قررت تحويل الخلوة لمدرسة أولية أو كتاب واصلت فيها حتى السنة الثانية.. طبعاً المدرسة كانت بمصاريف شهرية أظنها عشرة قروش، الوالد كان يرسل لينا المصاريف من أسوان كان بشتغل هناك.. في منتصف السنة الثانية انقطعت عنا أخبار الوالد وبالتالي انقطعت المصاريف.. الناظر أنذرني بالفصل اذا لم أسدد المصاريف فاضطريت لقطع الدراسة وقررت أن أعمل لإعالة الأسرة بعد ما عرفنا أن الوالد مريض بأسوان وطريح سرير المستشفى هناك. ٭ الأسطى عامر والمنطقة الصناعية: - الأسطى عامر ابن خالتي والحديث لا زال لإبراهيم عوض، كان يعمل حداداً بورشة المعلم المعروف إدريس الهادي وهي من أكبر الورش في المنطقة الصناعية بأم درمان في تلك الفترة.. توسط لي ابن خالتي عامر عند إدريس الهادي فعملت كصبي بالورشة وبعد فترة بسيطة أصبحت من الأسطوات الذين يعتمد عليهم، وأنا الآن احتفظ بأول خزنة حديدية قمت بصناعتها بنفسي وهي مخصصة لحفظ الأوراق المهمة والمستندات حيث إن الأموال رصيدها قليل ولا يستدعي حفظها داخل خزانة. ٭ باب الموسيقى: يواصل إبراهيم حديثه عن المنطقة الصناعية حيث يقول: لكي اكتسب مزيداً من الخبرات التحقت بورشة لصناعة الأبواب والشبابيك الحديدية التي راجت سوقها في تلك الفترة لتحل مكان أبواب السنط التي كان شائعاً استعمالها في كل مدينة أم درمان.. صاحب الورشة المعلم ناصر بشير أتاح لي فرصة القيام بصناعة باب حديد فريد في نوعه وشكله.. كنت قد حدثته عن نيتي في تصنيعه.. أتيت بالنوتة الموسيقية وقمت بنقل حروفها وشكلها ووضعتها كحلية للباب وهو باب منزلي الحالي.. حتى تلك الفترة ورغم فراغي من تصميم الباب بالحروف الموسيقية إلا أنني حتى ذلك الوقت لم أعرف قراءة النوتة ولا أفك طلاسمها. ٭ حديث عن الأسرة: قال إبراهيم عن أسرته.. والدنا جاء مع والده من ريف مصر واستقر بحي العرب، وجدنا كان يتقن حرفة نحت الحجارة لذلك أدخل ابنه عوض مدرسة أم درمان الصناعية ليتعلم هذه الصنعة، بالمناسبة والد اللواء خالد حسن عباس كان يعمل مع والدي في نفس المهنة وقد عملا سوياً وشيدا العديد من الدور والمباني الحكومية التي وقفت شامخة حتى الآن كشهادة على متانة هذا النوع من البناء بالحجارة الذي أدخله أسلافي «الكنوز» القادمون من ريف مصر، وقد شيدت على هذا النمط العديد من الدور الحكومية مثال وزارة الداخلية والمالية والصحة والمحافظة وغيرها.. كنت أزور والدي عندما كان يعمل في تشييد مباني وزارة الداخلية.. كانت تصحبني أمي لزيارة شقيقاتها بالخرطوم.. كان أهلنا في أم درمان يطلقون على كل من يسكن الخرطوم «ناس الخرطوم» وكذلك الحال تجاه ناس الخرطوم مع ناس أم درمان.. كنا نركب الدوران وهذا الاسم كان يطلق على «الترماج» البمشي الخرطوم عن طريق بحري، كنا نعرج على زيارة الوالد وكنت دائماً أجده جالساً تحت ظل شجر «اللبخ» على شاطيء النيل وهو منهمك في تشكيل الحجارة التي تستعمل في البناء. ٭ الأسرة الصغيرة: - يقول إبراهيم عوض عن أسرته الصغيرة زوجتي من أهلنا الكنوز وهي خريجة كلية التجارة جامعة القاهرة الفرع وهي إمرأة مدركة ومتفهمة لطبيعة عملي كفنان.. أما عن الأبناء فهم ستة كلهم أولاد، الكبير عوض وهو الآن في طريقه لدراسة الطيران، أما مازن فقد أكمل دراسة الطب باليمن والآن يتخصص في الجراحة بأمريكا مع خاله الموجود هناك، وهناك التيمان حسن وهاشم «يعني غنية وكسرة» بلغتنا زمان، وأخيراً محمد المجتبى، ونلاحظ في أسماء الأولاد حسن وهاشم فهي على أسماء السادة المراغنة، فنحن ننتمي لطائفة الختمية والوالد هو من أسماهم. ٭ قلت من سيكون خليفتك من هؤلاء الأبناء؟ - أجاب كلهم عندهم علاقة بالفن، فهم يعزفون بحكم توافر الآلات الموسيقية بالمنزل إلا أن والدتهم ترفض رفضاً باتاً عمل أي منهم به. ٭ قلت نرجع لبداياتك الفنية، كيف كانت؟ - أجاب البداية كانت عادية فحي العرب مليء بالشعراء والفنانين وعدد كبير من الشعراء كانوا من الجيران أمثال الطاهر إبراهيم وسيف الدسوقي وعبد الرحمن الريح، يعني فرسان الشعر الغنائي في تلك الفترة ولا زال، لذلك لم أجد صعوبة في التوجيه واختيار الكلمات. ٭ دخول إبراهيم عوض الإذاعة؟ - يقول إبراهيم عوض كان دخول الإذاعة في ذلك الوقت يتطلب من المتقدم أن يكون له ثلاث أغنيات خاصة به «مش زي هسي»، إضافة إلى ما يفيد بعدم معارضة الأسرة على اشتغاله بالفن. ٭ ارتبط الفنان إبراهيم عوض خلال مسيرته الفنية بالشاعر عبد الرحمن الريح حدثنا عن ذلك؟ - قال: عبد الرحمن الريح كانت عنده ورشة لصناعة الأحذية الشعبية «المراكيب»، الورشة كانت جزءاً من منزله وكان يساعده في العمل صبي كان يمتلك صوتاً جميلاً وهذا الصوت كان هو جواز سفره لورشة عبد الرحمن الريح الذي احتضنه فنياً فأهداه أغنية من كلماته وألحانه وقد كانت هذه الأغنية بعنوان «كان بدري عليك تودعني وأنا مشتاق ليك»، وبعد أن تغنى بها هذا الصبي اليافع عمر أحمد صمت إلى الأبد ورحل عن الدنيا وهو لم يكمل السادسة عشرة من عمره.. ويواصل خلال تلك الفترة أحسست بموهبتي الفنية تتحرك داخلي، ولأن الجار أولى فقد شرعت أتسلل خلسة إلى ورشة إبراهيم عوض الذي استمع إليّ وأهداني أول لحن خاص بي وشقيت به طريقي للإذاعة وهي أغنية «هيجتني الذكرى» كان ذلك في العام 35، بعد كده التف الشباب من شعراء الحي حولي وكانوا هم أنفسهم يبحثون عن الشهرة فوجدوا ضالتهم في ابن حيّهم. وقد كنت أشق طريقي نحو الشهرة هؤلاء أمطروني بسيل من الأشعار الغنائية الجديدة في معانيها مما دفع بي نحو الشهرة والمجد في تلك السن المبكرة وأجلستني مع عمالقة ذلك الزمن حسن عطية.. وأحمد المصطفى. ٭ حي العرب بكل ما فيه من زخم، كيف كان أثره على مسيرة إبراهيم عوض الفنية؟ - قال: بالتأكيد نشأتي في هذا الحي المتميز والمتفرد في كل شيء ناسو.. مبانيه.. شوارعو.. مورثات أهله.. تقاليدهم.. عاداتهم وحبهم للفن والطرب، رغم تباين أجناسهم وأعراقهم إلا أنهم عاشوا كأسرة واحدة.. كل هذا إضافة إلى زملاء الإبداع من الشعراء أكمل الصورة في داخلي، ففي هذا الحي التقيت بالشعراء والموسيقيين والملحنين وحتى المستمعين الجيدين، فقد كانت هناك جلسات فنية ومن خلالها اكتسبت الخبرات في مجال الفن، هذا الجو شكل شخصيتي الفنية، بل الاجتماعية. ٭ إبراهيم عوض ملك الشياكة والأناقة؟ - قال: السينما في ذلك الوقت كانت تشكل أحد روافد المعرفة الفنية وكانت تعني لنا الكثير، فهي ترفيه وثقافة وكانت مركز لالتقاء الأصحاب وأبناء الحي تعلمنا من السينما الكثير.. أنا شخصياً كفنان تعلمت أصول اللبس الأفرنجي أنواعه وأشكاله وتناسق الألوان، كنا بنخش السينما كثير.. السينما كانت اختراعاً مدهشاً بالنسبة لزماننا ذاك، تعرفنا على العديد من نجومها المصريين والإنجليز، تعرفنا على موسيقاهم وغناهم. ٭ إبراهيم عوض لم يدرس الموسيقى لماذا؟ - قال: أنا تعلمت مباديء الموسيقى بطريقتي الخاصة على يد الموسيقار إسماعيل عبد الرحيم وهو كان يعلم الموسيقى بمدرسة محمد حسين المجاورة لنا، كان يأتي لي بالمنزل تعلمت منه مباديء الموسيقى وقراءة النوتة. ٭ إبراهيم ملك الأغنية الخفيفة؟ - قال الأغنية الخفيفة كانت موجودة قبل ظهوري وقد عرفت بأغنية «الكسرة» بفتح السين، وقد تعامل معها أحمد المصطفى والكاشف وأنا طبعاً امتداد لهؤلاء. ٭ ما هو سر احتفاظ إبراهيم عوض بصوته قوياً رغم عامل السن؟ - أجاب.. هناك العديد من الأشياء التي يجب اتباعها كالابتعاد عن السهر المتواصل والكحول والمخدرات، وأنا بفضل الله لم أتعاطى مكيفات منذ نشأتي وأتمنى على الفنانين الشباب أن يبتعدوا عن الشر ويغنوا له. ٭ قلت أنت ابتعدت عن الشر كما قلت، فماذا غنيت له أخيراً؟ - قال: أغنية للطاهر إبراهيم يقول مطلعها «يا حبايب لا فرح لا نغم لينا طايب»، وأخرى لحسن الزبير من ألحان الماحي سليمان بعنوان «الليل البساهرو».. هذه الأغاني رحل إبراهيم قبل أن يتغنى بها.