أحرص كل الحرص على ألا يوافيني شهر رمضان الكريم ولا أيام الأعياد خارج البلاد ذلك إنني لا أعرف طعم الصوم ولا حلاوة العيد دون أهلي وأحبابي وأصدقائي وزملائي وتراب بلادي.. وقد أجبرتني ظروف خاصة لأغيب في العشر الأواخر من رمضان في جمهورية مصر العربية والتي اعتدت زيارتها منذ فبراير 1975 وشهدت تشييع كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم وكنت أعتقد ان هناك عادات وتقاليد سودانية مية المية لا يشاركنا فيها أحد خاصة في شهر رمضان حتى حللت ضيفاً على أم الدنيا.. وتحدث إلى سفيرنا الهمام سعادة الفريق أول ركن عبدالرحمن سر الختم بمجرد وصولي أرض المطار حيث استقبلني موفد السفارة وأقلني بعربة السفارة حتى موقع سكني ودعاني سعادة السفير للإفطار على مائدته بفندق سمير أميس على شرف وداع السفير عبدالغفار الديب بمناسبة نقله إلى الخرطوم. والدبلوماسي المصري المعتق عمل في عدة بعثات في أوربا وأمريكا وأفريقيا قبل أن يشغل منصب أول قنصل مصري بجوبا ثم عهد إليه بملف السودان بوزارة الخارجية المصرية ثم سُمَّي سفيراً لجمهورية مصر العربية بالسودان. ورغم وطأة المرض وقلق التشخيص ومرارة الدواء.. استمتعت بتلك الجلسة الفريدة والتي تحدث فيها السفير الديب قائلاً إن شعب مصر والسودان يسقى بماء واحد.. ويواجه مصيراً واحداً.. وأطربتني العبارة والرجل خطيب مفوه لا يشق له غبار. وتلقفتني أيادي إخوتي المصريين بالدعوات وإكرام الوفادة حتى خجلت من القاهرة وحتى المنوفية شمالاً وحتى أسوان جنوباً وطعمت من المائدة المصرية.. والقاهرة تسهر حتى مطلع الشمس فتضمن معها القيام والتهجد وصلاة الفجر بدون أي منبِّه.. لكن ما لفت نظري هو كثرة «موائد الرحمن» المنتشرة في كل الشوارع وهي حافلة بالطعام والشراب لكل الناس بلا استثناء مما أدخل في نفسي شعوراً بالارتياح والسرور بأن معاني الصوم مكتملة في مصر. لكن ما أدهشني حقاً وأنا في طريقي لتلبية دعوة إفطار في «عين شمس» وقد حال الزحام في الشوارع دون وصولنا لمكان الدعوة قبل الأذان.. أن المصريين يمارسون عادة «عوج الدرب» والتي اشتهرت في بلادنا خاصة في الجزيرة وعلى طريق مدني الخرطوم حيث يقطع المواطنون على مستخدمي الشارع الطريق عنوة حتى يتناولوا إفطار رمضان ويشربوا الشاي والقهوة ثم يواصلون المسير... هذه العادة الفريدة مطبقة في مصر أم الدنيا والناس بطريقة معدلة بما يتماشى وايقاع الحياة هناك فالشباب يقفون على أرصفة الشوارع والتقاطعات يحملون الماء في عبوات صغيرة والبلح والعصير خاصة التمرهندي يوزعونه داخل العربات والحافلات حتى يتسنى لكل راكب «تحليل الصيام» ومن أراد الوقوف والنزول فالمائدة جاهزة.. نضَّر الله وجه المصريين وأثابهم خيراً كثيراً. في قرية الشهيد فكري ضاحية مدينة «بنها» كنت ضيفاً على أسرة مصرية كريمة وعشت مع الفلاحين أمسية رمضانية حافلة بصنوف الطعام والشراب والذكر والحفاوة لدرجة المبالغة.. وأنا موقن بأن لمصر علينا أيادٍ كثيرة في التعليم والثقافة والفنون والسياسة وقد سبقتنا في كل المجالات تقريباً ونحن لا نشعر تجاه المصريين بأي عقدة والدليل أعداد السودانيين هناك وأعداد المصريين هنا.. حتى وإن وقعت بعض المشادات والمشاحنات بسبب بعض الأحداث.. وأنا هنا اتحدث عن المستوى الشعبي لا الرسمي.. فإنها لا تؤثر كثيراً على متانة العلاقات بين الشعب في شطري الوادي بالرغم من النبرة التي يتحدث بعض المصريين عن السودان والتي قد تغضب السودانيين أو عن انطباع بعض السودانيين عن المصريين وفي الحالتين يقع الظلم بسبب التعميم الظالم أصلاً.. وتبقى بعض المسائل المعلقة والتي تثير الحساسية بمجرد ذكرها ،يحتاج علاجها لإعمال الحكمة وتغليب المصلحة العامة للبلدين.. فمثلاً النسبة المأهولة من الأراضي المصرية قد لا تصل إلى خمسة بالمائة من مساحة البلد.. والسودان تبلغ مساحته مليون ميل مربع.. وتقوم الدنيا ولا تقعد بسبب «مثلث حلايب» !!والذي هو أرض سودانية بالتاريخ والجغرافيا.. لكن قاتل الله الطمع ثم السياسة. ثم مياه النيل والتي لا نختلف عليها مع المصريين لكن ما يفوت من نصيبنا إلى مصر وما يفوت نصيب مصر إلى البحر الأبيض المتوسط يجعل من عبارة «حرب المياه» مجرد نكتة سياسية بايخة لكل دول الحوض.. فالله سبحانه وتعالى وحده الذي خلق السماوات والأرض وقدر فيها أقواتها.. قُلْ أرايتم إن اصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين؟؟ أنظروا لمصر بعين أخرى غير العين السياسية ولتنظر مصر الدولة للسودان بما يستحق من تضافر وتضامن وتكامل.. وأسقطوا من ذاكرتكم أن مصر كلها مستهبلين والسودان كله «بوابين»!! وهذا هو المفروض،،