لو أن بعضاً قليلا أو نذراً يسيراً من الذي حل بي من الهم والغم قد حل ببعض أهل المجانة والبطالة واللكاعة والوضاعة والفهامة لأقدم على الانتحار بلا تردد وبلا هوادة. ما زلت أصرخ.. واستصرخ الدنيا معي قربا وذوداً ودفاعاً عن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زلت استثير أهل الجلادة والصرامة والقوامة والنباهة فرداً فرداً، وجماعة جماعة، وهيئة هيئة، ومجمعاً مجمعاً، وجامعة جامعة وكيف بالله لا يركبني الهم والغم والرجاء وأنا أجلس في أصل المنبر لأستمع الى خطيب تدلى علينا من حيث لا نعلم ولا نحتسب.. وأنا مضطر لأن أجلس في أدب وفي وقار لأستمع اليه وهو يلحن بلا تردد وبلا هوادة، فإذا خالفت الأدب والوقار بطلت جمعتي. نذيري في ذلك أني أرجو أن يكون أجري مضاعفاً في هذه الجمعة، ويفوق أجر كل من شهدها معي ولم يصبه من الهم والغم والرجاء ما أصابني، وأنا استحي أن أقول إنني أحصيت له ما لا يقل عن مائة موضع للحن في نحو، وفي صرف، وفي نطق، وفي معنى.. ولا أدري إن كان ذلك يبطل جمعتي أم يضاعف أجرها!! وسأذهب الى شيخ محمد أحمد حسن في هيئة علماء السودان أسأله الفتوى في جمعتي هذه... وقد ذهب في طلب الفتوى من هو أكثر علماً مني، وفي شأن أقل من هذا الشأن.إني لأنظر الى الرجل على المنبر فأراه نظيفاً متجلبباً متعمماً متهندماً، تكسوه المهابة والوقار والسكينة، فيتعلق به قلبي وبصري، انتظر منه الحكم والرقائق واللطائف، فإذا تكلم ولحن سقط في نظري وخاب فيه رجائي، وأصبح عندي مثل (بو) لا يضر ولا ينفع، إن الذي يكثر فيه اللحن في اللغة يطلق عليه أصل العربية اسما هو (لُحَنة) بضم اللام وفتح الحاء المهملة وفتح النون.. ويسمون الذي يحصي على الخطباء والمتكلمين لحنهم (لحنة) بفرق واحد هو سكون الحاء المهملة.. ولا أدري إن كان ذلك ذماً أو مدحاً.. وأما إذا كان يفعل ذلك للنكاية والسخرية، فهو ذم له لا شك في ذلك. وأما إذا كان يفعل ذلك حفاظاً على لغة القرآن ولغة النبي العربي صلى الله عليه وسلم وغيرة على الدين.. فلا بد أن يكون الوصف والاسم في ما أريد به المدح.. ونقول استطراداً إنهم يطلقون صفة هُزأة على الذي يقع عليه استهزاء الآخرين أي هو موضع الاستهزاء، ويقولون للذي يكثر من الاستهزاء بالآخرين (هُزأة) بتصريف واحد كما في(لحنة ولحنة).. وقالوا إن الرجل إذا لحن في دعاء أو في ذكر لم تدر الملائكة ماذا تكتب، لأن الملائكة لا تعرف اللحن، فهي لا تعرف إلا صحيح اللغة.. فإذا قال الرجل أشهد أن محمداً رسول الله بفتح اللام في رسول عدت الملائكة ذلك بدلاً من محمد ومحمد اسم (إن) فبقي عليه أن يأتي بخبرها. وسمع رجل مؤذناً يقول أشهد أن محمداً رسول الله بفتح اللام في رسول فقال: ماله؟ أي ينتظر خبر (إن).. وقيل كان لرجل ابن اسمه ليث، وكان يدعو ويلحن في دعائه ويكثر من اللحن فقال الرجل: ويدعو ربه باللحن ليث فذاك إذن دعاء لا يجاب ولا يستملح اللحن ولا يستظرف إلا من الجواري الصغيرات السن قال الشاعر: منطق حلو وملحن أحيانا وأعذب الكلام ما كان لحنا وأكثر ما يلحن فيه خطباء المنابر كسر همزة (إن) بعد القول، وهو أحد ثمانية مواضع تُكسر فيها همزة إن وما بقي تأتي فيها مفتوحة (أن).. ومن الغريب العجيب إذ يلحن أهل القرآن وأهل العلم في كسر همزة إن بعد القول، وهم يتلون في كتاب الله في سورة واحدة في مواضع ثلاثة: إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض وتُكسر همزة إن بعد القول فعلاً ومصدراً الفعل في أحواله الثلاثة: الأمر: «قل إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض» الماضي: «قال إنه يقول إنها بقرة»... المضارع: ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن (بيوتنا عورة) المصدر: (فألقوا اليهم القول انكم لكاذبون) وكذلك قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم) واللحن يجئ أيضاً بمعنى الميل عن المتبادر الى الذهن من الكلام الى معنى آخر، يغيب عن بعض السامعين ويفطن له البعض الآخر.. كقوله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة وأرسله يستطلع له العدد: إذا جئتني فالحن الي لحناً أي لا تصرح ولكن لمح، وفي ذات المعنى يقول الشاعر: وأدت الى القول منهن زولة تلاحن أحيانا وترنو لقول الملاحن والزولة هي المرأة الخفيفة الظريفة الأريبة الأديبة. والزول هو الرجل المهذب النبيل الظريف اللطيف، والزول والزولة فصيحة بسكون الواو وفتح الزاي.. وفي عامية أهل السودان نقولها بضم الزاي (يا زول) وأنا أقول بالنظر الى لحن المنابر ولحن القراء والمؤذنين، إنما أشكو حزني وبثي الى الله واعلم من ضرر اللحن على المنابر ما لا يعلمون.. وأسال أيضاً مستفتياً.. إذا أردت أن أرفع دعوى جنائية فعند من؟ هل ضد الخطيب أم ضد لجنة المسجد؟ إذن تطول الحكاية!! أم ضد وزارة الشؤون الاجتماعية، أم ضد وزارة الرعاية الاجتماعية وعلى رأس كل واحدة منهما «زولة» ولو كان «زولاً») لقلنا ربما!! أم نفتح بلاغاً في مجلس الدعوة، أم في وزارة الإرشاد، وهل نضم مجمع اللغة العربية الى البلاغ، أم نأتي به شاهداً، وأنا لا أسأل هل يجوز شرعاً وقانوناً فتح البلاغ.. بل اسأل ضد من يكون البلاغ؟ فهذه قضية حق عام وقضية حسبة، لا يجب أن يكون المدعي فيها صاحب مصلحة خاصة، أو ذا علاقة بالحق الضائع، بل يكفي أن يكون ممن يتأثرون بضياع هذا الحق تأثراً مباشراً أو غير مباشر. وأنا أكرر ذات السؤال في العنوان (بماذ تنصحونني؟) وأرجو قبل أن تصلني الإجابة أن ينبري من الجهات الي ذكرتها من يضطلع بمهمة الإصلاح والرتق، وأرجو ألا يكون الفتق قد اتسع على الراتق. وأرجو ألا يكون الرتق والاصلاح بالتبكيت والازراء والاستهزاء، وأرجوا أن يكون بالروية والخطة والمنهج والبرنامج، وأن يبدأ ذلك من الأساس ولا ضرر ولا مانع من الخطة الاسعافية وبعض المسكنات. ومن الخطط الاسعافية أن نرجو ونلح في الرجاء على من كان «لحنة» بفتح الحاء ألا يقترب من منابرنا، وعلى من كان «لحنة» مثلي أن يكظم غيظه ويكثر من الاستغفار، وألا يبطل جمعته بالململة والتأوهات!!