حالة الاستقطاب الحاد الذي تشهدها بلادنا، والتي انعكست على أنشطة المجتمع السوداني الثقافية والاجتماعية والرياضية، وغيرها من مناشط، ويلعب الإعلام السوداني دور (القائد) للرأي العام وتشكيله حسب مناخ هذا الاستقطاب الحاد، وقديماً كان الاستقطاب بين فئتين (أفندية) و(عوام)، ثم طائفتين من مؤمني السودان (الختمية) و(الأنصار)، وحولهما أفندية الولاء والخنوع، وآخرون ينددون بموت (كهنوت) مؤسس خرافة البقاء الأبدي، والطائفتان اتخذتا الجهوية محراباً، واحتكرتهما أرضاً طهوراً، تقام فيها فروض الولاء والطاعة شرقاً وغرباً، ثم جاء من بعدهم العسكرتاريا، فمنهم من خرج من بطون الطائفية ومنهم الأيدلوجي، ومابين الكف رمزاً للجبهة الإسلامية والأعلام الحمراء دعوةً للماركسية، كانت مشاريع تلك العسكرتاريا السودانية صب الزيت على مسلسل الاستقطاب الرجيم، ووصل هذا الوضع الى ما نحن عليه من احتراق واحتراب، ضرب كبد الأمة السودانية، فأصبحت مناعتها لا تصمد أمام أمراض الأمم . هذه المقدمة هيجتها بداخلي دعوة الأستاذ عثمان ميرغني (للحل الرشيد) عبر عموده «حديث المدينة» بالزميلة اليوم التالي الصحيفة الشابة، وكذلك عبر صفحته على الفيسبوك بذات الحل الرشيد، وبعد الاطلاع سريعاً رجعت الذاكرة ومعامل التحليل الى الوراء الى ما مضى من مشاريع الأستاذ السياسية، وعادت الذاكر الى 2006 م حينما صعد عثمان ميرغني الى مسرح السياسة من بوابة القيادة السياسية، والدخول الى دوائر (الانتقاد) والمحاسبة بعد أن كان يقدم (النقد والتصحيح) على كراسة السياسي، أصبحت كراسته يمر عليها زملاؤه قبل الجلوس في كنبة المهدي والترابي والميرغني والبشير وآخرون من أصحاب السلطات الثلاث، غير صاحبة الجلالة، وأسس منبر السودان محاولاً به تجاوز مراحل الاستقطاب التي وردت في مقدمة مقالنا، ودشن عثمان ميرغني منبره في شارع المين جامعة الخرطوم عبر مخاطبة سياسية (إن لم ترهقنا الذاكرة)، وبعدها استل الإعلام سيفه في مواجهته وحاكموه بانتمائه القديم وولائه للحركة الإسلامية، وتاريخه الطلابي في اتحاد الطلاب السودانيين، وعلاقته بالأستاذ علي عثمان النائب الأول، وأن المنبر صناعة إسلامية وبديل لأحزاب المعارضة، وتمويه أن الحكومة تقبل الرأي والرأي الآخر، وفشل مشروع عثمان ميرغني وحلمه السياسي الأول بعيداً عن الانتماء للمنظومات الكبيرة.. (الجبهة الإسلامية مثالاً) ثم عاد الى داره (الصحافة) التي قدمته الى معترك السياسة، التي راودته عن نفسها وتزينت له وهمَ بها، لولا سيوف مخالفيها القدامى خاصة اليساريين في أسافيرهم، ومارس الأستاذ صلاته على مكويت الصحافة والراى العام والسوداني وصار نجم تسجيلات تنقلات الكتاب الى أن أسس «صحيفته التيار» التي تم إيقافها عن الصدور دون إرادته، وفي التيار أصبحت تراوده فكرة منبر السودان، وسخرها لمشروع شبيه، أسست له مقالات البروف مصطفي إدريس عبر سلسلة مقالات وصلت الى الدعوة الى «حشد» المشروع الثاني للأستاذ عثمان ميرغني، ولأن البروف قبيل مقالاته كان جزءاً أصيلاً من النظام الحاكم، ماتت حشد قبل الحشد والالتفاف، ولم تذكر حشداً إلا في إعلام معارضي الإنقاذ، كدليل على اعتلال النظام الحاكم وحزبه فقط، هذه المشاريع السياسية كانت تشخيصاً لراهن سياسي كلي أو جزئي، أخذت حقها من التداول الإعلامي، ولكن سريعاً تلاشت في أمواج السياسة السودانية وأحداثها، وهناك مشاريع أخرى ارتبطت بأشخاص حاول بها تصحيح مسار الوضع الراهن وقتئذ مثل «حتم» حركة تصحيح المسار التي نسبها البعض الى حسن مكي، وأيضاً «حسم» أبو القاسم حاج حمد، ولأنهما مشاريع لم تصمد على أرض الواقع السوداني، أصبحت أرشيفاً وذكريات من ما مضى من أيام وأفكار رحلت مع منظروها. واليوم يطرح الأستاذ عثمان ميرغني مبادرته عطفاً على قراءات الراهن السياسي وتشخيصه للخروج من الأزمة السودانية، حيث دشن المشروع في طيبة برس بحضور أكاديمي وسياسي لوضع الوصفة العلاجية للخروج الآمن للأزمة، إلا أن الراهن اليوم دخل مراحل عنيفة في الاستقطاب الجهوي والقبلي، إضافة الى ترسبات الماضي السوداني والحاضر الإنقاذي الذي ترى القوى المعارضة أنه في النهايات، خاصة بعد تحالفات الثورية مع بعض القوى السياسية التي تسعى الى التغيير والإسقاط وفرض بديل بالقوة للنظام الحاكم.. عليه سوف يصطدم الحل الرشيد بتحديات ربما تقوده الى مصير مشاريع عثمان ميرغني (المنبر والحشد) ومن هذه التحديات أولاً: المتحكمون في الراهن السياسي (النظام والمعارضة والحركات المسلحة) وهي صانعة هذا الراهن هل تقبل بالمبادرة؟ خاصة في ظل الاستقطاب الحاد الذي وصل الى مراحل سرطانية . ثانياً: صاحب المبادرة وتاريخه السياسي القديم وتربص اليسار السوداني به، وخلافاته مع السلطة في وأد حلمه الإعلامي، تجعلان الرجل في دوائر الرفض والقبول. ثالثاً: هناك تغييرات في الخارطة السياسية السودانية بعد انفصال الجنوب، خلقت قنابل قابلة للانفجار مثل الصراع حول أبيي، والحركات المسلحة كقوى جهوية وقبيلة ترتكز على البندقية في الحل للأزمة السودانية.إن الحل الرشيد مشروع سياسي شخص الأزمة وهذا ما يملكه الأستاذ عثمان ميرغني بخبراته الإعلامية كقائد للرأي العام عبر حديثه في المدينة والتيار، بينما لا يملك العلاج.. خاصة بعد الأزمة السودانية، أدمنت العلاج بالخارج في مشافي الدوحة، وأديس أبابا، وابوجا، والقاهرة العليلة، ولنا ملاحظة على صفحة الحل الرشيد الاسفيرية على الفيسبوك وإنها من أكبر مهددات قتل المبادرة إذ أن الاسفير حالة مزاجية، ويخلق شخصيات افتراضية وحلولاً مستعارة، وبذلك يتحول الحل من رشيد الى فوضى.