«1» إنك الآن تحلم بحزم أمتعتك هروباً من وحشة المدن البعيدة . تستمتع عبر مرايا الخيال والذاكرة بتفاصيل الوطن من بعيد ...ليس وطناً للتبريح والسهاد والمرارات ولكنه الوطن عندما تركته، ينال طهارته كل يوم من نهر بباب أهله يغتسلون منه كل يوم مليون مرة ، فلا يبقي ذلك من درنهم شيئاً، فما أجملك أيها الوطن الآسر. إنك تتمشي في هذا البعد الدموي في مفاصلنا كتمشي البرء في السقم. تمشيك هذا هو على أقل تقدير دواء يتعاطاه البعيد فيبدد همه ويعلي زخم أشواقه وتحرقه إلى الوصول فمن أين تبدأ طقوس شفائك في عيادة الوطن؟ «2» عندما تشرق الشمس عادة في قرية الأركي القادمة من رائحة تواريخ العرب والنوبة من أعمال مركز مروي سابقاً يكوُن مطلعها ظاهرة غريبة. إن الشمس هنا تشرق متعامدة مع قباب الصالحين ود الكندري في القرية نفسها وقبتي الشيخ حاج عيسى ابقرن والشيخ حسن ود بليل أعلى قرية النافعاب المجاورة. إن هذا الشروق المائل نحو قباب الصالحين يقابله غروب مماثل فالشمس ترسل أشعة شروقها جهة القباب وتغرب في مرمي هذا الشعاع المبارك فهي تريد أن تقول إنني أشرق نحو القباب وأغرب في اتجاهها . على قوز ساقية علي ينتظم الصائمون على مفارشهم المصنوعة من سعف النخيل ...بروش كبيرة تتمدد في شكل مربع كبير على قوز الخلوة.. وقبيل الإفطار ، يقف الصبية على القوز بعيون ترنو إلى جهة الغروب ..هنالك حيث يندلق شعاع الشمس الغاربة بين القباب متخللا أشجار النخل العالية في قرية ولاد الحاج . إن تلك القرية في ظل هذا المشهد والنخل العالي الذي يحف بها كمليط عند العباسي: كأنها ورمال حولها ارتفعت أعلام جيش بناها فوق أطواد.. «3» ترسم الشمس الغاربة آخر لوحاتها اليومية على تلك الرمال بلون مذهب لتندس بهدوء خلف تلك القباب وكأنها تنفذ عقداً مبرما مع القرية أن تمنحها لوحة جديدة تشكل صافرة البدء للآذان في السواقي كلها وبالتالي افتتاح طقوس المشاركة الحميمة بين الجيران في الصواني التي تأتي إلى المكان الواحدة تلو الأخريز اتيك من بعيد رائحة نفاذة للقهوة وشاى اللبن أبو «قنَانة» من البيوت الكريمة أو رائحة الآبري النفاذة ، وأصوات خافتة لراديوهات عتيقة في بعض البيوت ، ترسم لوحة أخرى للشهر الكريم من هناك على شاطيء النيل في أم درمان. شكل «كواري» الآبري والنشا والليمون على الكواري القادمة، يوحي بروحانية خاصة بأنك في هذا الشهر الكريم.. أغطيتها ذات التصاميم الملونة التي تحمل صور الهلال والنجوم وعبارة «رمضان كريم». والدتنا تسمي هذا الطراز من الكواري «كورية بت السما» وربما يعني ذلك أن استخدام هذا النوع من الكواري مقتصر على أغراض السماء من إفطار لصائم وإطعام لعابر سبيل وتشارك في فضل المنعم بخيرات الأرض . بدا لي وقتها ، وما زلت أرى ذلك أن صواني الأكل تعبر عن تخصصات معينة فالبليلة الخضراء والفول والعجور والجرجير ، خدمة برع فيها من لهم أعمال زراعية في «بت الجزيرة» أو جزيرة "أوتد" والكلمة لها بعد نوبي ظاهر، ومن هذه الفئة خلف الله ود ابزيد والشريفي ود المكي وناس سعيد عبدالعزيز وحمِدة ، بينما لصواني شيخنا عبد الحليم إمام الجامع ومأمومه عمنا عبدالرحيم ود الزبير ميل إلى صينية طابعها قراصة القمح المرشوشة بدمعة اللحمة أو القراصة الرهيفة والفول. «4» يصلي الأهالي صلاة العيد بين ساقية الشمبياب وساقية شمبو. قبل أن يصادر النميري أنغام المديح من أفواه العاشقين وتتوقف رايات الختمية والأحمدية عن مداعبة النسيم العابر مرفرفة بتمايل أخاذ ووله صوفي ظاهر، وتعلن النوبة الإضراب عن إنتاج الصوت المدوي منزوية في ديوان العم عبدالرحيم الزبير، كان لفترة ما بعد الصلاة رونقها الخاص. باشارة من ود الزبير ، يصطف شباب الختمية ...حمدة ، سعيد ، أحمد عباس وخلف ابزيد .. «أمان خوفي .. تناديلي .. أراك شوفي ...رسول الله»، وربما اصطف الشباب برايات عالية متجهين نحو مسجد القرية العتيق بنذر من ديوان النور البراق: صلوا على ..صلوا على ...بحر الصفا المصطفى ....صلوا عليه آله والصحب آل الوفا صلوا عليه. قبل أن تتشكل مجموعات الناس للمرور على بيوت الناس للتهنئة بالعيد.