لقد كان د. غازي صلاح الدين أحد الذين قدموا مذكرة العشرة، وهي المذكرة التي أطاحت بالترابي، وأدت الى انشقاق المؤتمر الوطني الى جناحين الوطني والشعبي.. ورغم الاختلاف الكبير والمناوشات بين الفريقين- والتي لا تخلو من بعض المكايدات وبعض الملاسنات- إلا أن الحقيقة تظل راسخة وهي أن الفرق بين الاثنين فيما يتعلق بالشريعة يكاد يكون معدوماً، ولا ترجح كفة الوطني إلا من حيث أنه لا يوجد من بين قادته من يجاهر بمخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة كما يفعل الترابي في الشعبي.. والآن نجد أن د. غازي صلاح الدين هو قائد الذين قدموا مذكرة الحراك الإصلاحي، وسموا أنفسهم وسماهم الآخرون بالإصلاحيين، ولكن مذكرة الإصلاحيين لم تقابل بما قوبلت به مذكرة العشرة.. ربما لأن مذكرة العشرة كانت مرتبة ومتفق على اخراجها، وربما كانت معلومة النتائج وردود الأفعال، وكما أن مذكرة العشرة لم تحدث من الإصلاحات والتغييرات في مسيرة الإنقاذ أكثر من إحداث إنشقاق في الصفوف وأبعاد أفراد وشخصيات من مناصبهم القيادية مع إبقاء الرؤية الفكرية والممارسة اليومية دون أي تبديل أو تعديل .. فعلمانية المؤتمر الوطني التي تبلورت عام 1998 في دستوره المؤقت ظلت كما هي، حتى القضية المحورية التي كانت التعلة التي استندت اليها مذكرة العشرة وهي دعوة الترابي الى انتخاب الولاة.. رجع فيها المؤتمر الوطني الى ما رفضه وأباه وها هم الآن الولاة ينتخبون تماماً كما ينتخب رئيس الجمهورية. إن العبارة التي يمكن أن نلخص بها فحوى مذكرة الإصلاحيين إنها لم تخرج من عباءة المؤتمر الوطني، ولم تؤسس لشيء مختلف ولا لفكر جديد ولا لممارسة جديدة.. إن المذكرة جاءت كردة فعل للمظاهرات التي أعقبت الزيادات والتخريب والتدمير الذي طال بعض المنشآت والمواقع، وهو أمر طبيعي جداً في مثل انموذج المؤتمر الوطني المترهل بالقيادات من القدامى والوافدين والمتحالفين والمتلحظين، مع أن بعض قادة المذكرة لهم مواقف اصلاحية مشهودة في قضايا نشبت داخل أروقة الحركة والمؤتمر،، ولعل كثيراً منهم كانوا يمثلون الفصيل الأقرب الى الحقيقة والحق، ولكن رغم ذلك أو ربما تأسيساً على ذلك فإن المذكرة تأتي صادمة ومحبطة لأي تطلعات لاصلاح وترميم لأخطاء الحركة والمؤتمر من الداخل!! وتأتي الصدمة في الواقع من ناحيتين: أولاً : من جانب المذكرة نفسها والتي يبدو أنها كتبت بعجلة، ولم يتوفر معدوها على تجويدها وتبويبها وتمتينها، فجاءت أقرب ما تكون الى الخواطر أو الى المقال الذي كتب من وحي اللحظة، ثم دفع به الى المطبعة.. أضف الى ذلك الارتباك في العناوين الفرعية.. وفي الواقع أن تسمية العناوين بالفرعية يأتي تجاوزاً لأنه ليست هناك عناوين رئيسية يمكن أن تنسب لها العناوين الفرعية، فاختلط الرئيسي بالفرعي حتى الترقيم جاء مرة واحدة، وجاء مختلاً ربما من جهة الجمع. ورغم غياب العناوين الرئيسية والتبويب العلمي إلا أن هناك محاولة لتقسيم الموضوع الى أبوابه الرئيسية مثل ما هو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. إن أكبر خلل في المذكرة هو أنها لم تؤسس أقوالها على أصل جامع ترد إليه من خالفها أو من وافقها، وكان المنتظر من المذكرة أن تؤسس نقدها للإنقاذ ولأداء الإنقاذ على غياب المرجعية الإسلامية في التشريع وفي الممارسة. لا أظن أن أحداً من أصحاب المذكرة يمكن أن يختلف معنا على هذه الحقيقة، وهي أن التردي والقصور والارتباك والفساد الذي ضرب بأطنابه والقى بجرانه على السودان إنما هو نتيجة طبيعية للخلل التشريعي الذي ظلت الإنقاذ تعاني منه عمرها كله- اي لربع قرن من الزمان وتستعيض عنه بالشعارات والهتافات التي لا تتجاوز الشوارع أو المنابر أو صفحات الجرائد. اذا كان قادة المذكرة لا يوافقون على هذا- وهم يمثلون صقور الإنقاذ- فإن الإنقاذ قد تودع منها.. ولقد كنت أظن أنهم من حملة هذا الهم طيلة معرفتي بهم، ولكنهم الآن يستخدمون ذات المصطلحات والمفردات والعبارات الإنقاذية أو بالأحرى (الترابية)، التي أسست لعلمانية مسيرة الإنقاذ منذ عام 1998 والى يومنا هذا، لقد كان حرياً بالمذكرة أن تستفتح نقدها ومطالبها للدولة والمؤتمر باقرار دستور يقوم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا إبطاء ولا تسويف ولا مماطلة، هذا إذا كانت المذكرة حقيقة تسعى الى معالجة الخلل التشريعي والتنفيذي والسلوكي في مسيرة الإنقاذ. لقد ذكرت المذكرة الفساد وطالبت بوقفه وأصحاب المذكرة يعلمون أن نهج الإسلام ليس هو محاكمة المعسرين بعد وقوع الفساد منهم، بل بتهمة سد ذرائع الفساد والتصدي له قبل استفحاله، وعند وجود أدنى شبهة فساد في من ولي أمر الأمة، وهذا هو الفارق الكبير في فقه الولايات بين الإسلام وغيره من المناهج.. إن المذكرة تعلي من شأن دستور 1998 ودستور 2005م، وهو دستور نيفاشا وتعزي الفشل الى القصور في التطبيق أكثر مما تعزوه الى القصور في المضامين.. والدستوران علمانيان موغلان في العلمانية. بل أن المذكرة تعلي من شأن الديمقراطية والمواطنة والتعددية، وهي مضامين لا يشك أهل الاسلام ، ودعاة، ومفكرون، صوفية، وسلفية، حركية.. أنها مضامين علمانية ولكن بعد مخاطبة بعض أهل المذكرة تبين أنهم لا يخالفون في أن الخلل التشريعي هو السبب في تردي حال الإنقاذ وهم يلتقون مع الاصلاحيين من خارج المؤتمر الوطني.. أن المطلوب ليس هو إسقاط النظام بل المطلوب هو إصلاح النظام. ولكن إصلاح النظام وإن أغضب بعض أهل المؤتمر الوطني فلا محيد عنه، وهو (شر لابد منه) وهذه اقولها للثعالب وأبناء آوى والرخم والذئاب.. وإلا فإن إصلاح النظام هو خير لابد منه، وهو خير لأهل السودان وأهل الإنقاذ النسور والثعالب والصقور والرخم والنمور وأبناء آوى والأسود والذئاب. إن ثعالب الإنقاذ وذئابها هم الذين يسعون الى محاسبة أصحاب المذكرة.. والمذكرة مناصحة.. والمناصح لا يحاسب وإنما ينصت اليه.. ويرد عليه والنصيحة هي الدين، وإذا كان الإنقاذيون لايقبلون النصيحة فعلى أي دين هم؟ إن كثيراً من القدور تغلي والإنقاذ مرشحة الى مناصحات ومبادرات متتالية ومتوالية.. وخير للإنقاذ أن تلتفت للنصيحة، وأن تحترم المنصح وخير لها أن ترضى بقسوة المناصح وشدته وتشدده في النصيحة، خير لها ألف مرة من أن تطأ سنابك الجبهة الثورية وحلفاؤها عرصات المساجد، وتنتهك الأعراض، وتنهب الأموال، وتمنع الآذان، وتبيح المحرمات.يا إسلاميي السودان.. اتحدوا فالهجوم على الإسلام لا على الإنقاذ.