إذن قفة الملاح في السودن اصبحت مشكلة تواجه الأسرة مهما كان دخلها.. وقفة الملاح هنا ليست هي تكلفة الخضار واللحم والبصل والزيت فقط.. لأن تكلفة المعيشة لم تترك غنياً ولا فقيراً إلا وهزمت مقدراته المالية؛ وكل ما أطل مسئول متحدثاً عن جهود رسمية لخفض التكلفة مد السوق لسانه في اليوم التالي. أدهشتني تصريحات حكومة ولاية الخرطوم للمرة الثانية على التوالي.. فبعد تدخلها لتوفير الفراخ من أجل «الغلابة» قالت أنها لجأت إلى خفض العديد من الرسوم من أجل خفض تكاليف المعيشة.. كيف يمكن لتخفيض رسوم تسجيل الأراضي مثلاً أن يحدث أثراً مباشراً على تكاليف المعيشة لجهة انخفاضها.. كم عدد الفقراء الذين يتجهون إلى تسجيل أراضي أو منازل؟ وكم هي قيمة الأرض أو المنزل موضوع الرسوم المخفضة؟.. وكم مرة في العمر تسجل الأرض أو يشتري المنزل؟ وكم عدد المستفيدين؟ صحيح أن تخفيض الرسوم ينعكس ايجاباً على حركة الناس والخدمات، ويشجع على الاقدام على طلب هذه الخدمات، لكنها بلاشك ليست ذات أثر يذكر على تكلفة المعيشة اليومية المرتبطة بالاسعار بصل، زيت لحم، خضروات، حلة الملاح في أدنى مستوياتها الغذائية تكلف أكثر من عشرين جنيهاً.. أي 600 جنيه شهرياً هذه بدون أي متطلبات أخرى، فكم الحد الأدنى للأجور.. وكم متوسط دخل الفرد في السودان، حيث يعيش معظم الناس على أقل من دولارين في اليوم بالقياس العالمي.. كم عدد الذين يعجزون عن مقابلة الصرف اليومي لتكاليف المعيشة بل حتى عن سد الرمق؟ لا أعتقد أن جهة رسمية واحدة تمتلك الإجابة بالمعلومات الدقيقة... كم عدد المتسربين من الدراسة في مرحلتي الأساس والثانوي بعجز أسرهم عن دفع تكاليف الدراسة أو حتى عن دفع قيمة الساندوتش اليومي؟ بل كم عدد المتسربين الذين يتركون الدراسة لأنهم يعملون على الهامش لاعالة أسرهم والمساهمة في قيمة قفة الملاح؟ لا أحد يعرف ولا حتى وزارة التربية والتعليم تعرف.. كم عدد الهاربين من الدراسة بسبب الرسوم المفروضة من المدارس بموجب قرارات مجالس الأباء؟ رغم أن الوزارة تمنع الطرد بسبب الرسوم.. لا جهة رسمية ترصد مثل هذه التجاوزات. كم عدد الذين يموتون بالملاريا، والتايفويد، والكلزار، والاسهال المائي، الذي هوالكوليرا.. لا يوجد إحصاء.. كم عدد الذين يلجأون إلى الطب البلدي والأدوية العشبية القرض، والحلبة، والحرجل، لأنهم لا يستطيعون طرق أبواب الصيدليات، هل وزارة الصحة أو حتى المجلس الوطني الذي يهدد السماسرة والمتاجرون برفع الأسعار يعلمون؟.. لا أظن. كم عدد العاطلين عن العمل بسبب الخصخصة؟ أو بسبب الجامعات التي أصبحت أكثر من كناتين الأحياء الشعبية؟ هل وزارة العمل أو حتى وزارة تنمية الموارد البشرية الجديدة تمتلك احصاءات دقيقة أو تقريبية؟.. لا أظن. خفض تكلفة المعيشة يحتاج إلى حزمة من الإجراءات، تسبقها سياسات دولة واضحة في عدد من القطاعات، تبدأ بالإنتاج والإنتاجية، مروراً بدعم المحتاجين، وزيادة الصرف الفعلي على التعليم والصحة، وفتح فرص العمل، وتخفيف شروط التمويل، ورفع مقدرات الأداء الأقتصادي، ورفع قدرات الناس، لتنتهي هذه الحزمة في النهاية عند المواطن البسيط، ليجد حاجاته دون مغالاة في الأسعار، ودون أن يسيطر غول الأسواق.. ويشل حركة الناس كما هو الوضع الآن. إذن إن أراد المجلس الوطني عبر إحدى لجانه أن يتحدث أو يتدخل لضبط الأسواق، فليبدأ بداية صحية.. من أصل الأزمة لامن فروعها، وأصل الأزمة في اعتقادي هي سياسات أدت إلى انفلات في الأسواق.. هذه السياسات أفرزت جملة من الأوضاع الخاطئة، في مقدمتها المفهوم الخاطئ الذي يتعامل به أولو الأمر، ومن بعدهم التجار، فسياسة التحرير الذي يعتقد أنها تتيح العمل بلا ضوابط هو مفهوم خاطئ.. التحرير لا يعني فرصة للبعض للقفز بالزانة إلى سلم المال والشهرة، كما حدث فعلاً خلال ال 15 سنة الماضية.. قفز فوق ظهور البسطاء ومطحوني قفة الملاح. خطأ السياسات الثاني والأخطر هو ما حدث من تجفيف للعملات الحرة، وترك المستوردين تحت رحمة السوق السوداء.. فالتجفيف الذي حدث لعدم وجود احتياطات من النقد الاجنبي داخل القطاع المصرفي بسبب تذبذب أسعار البترول عالمياً، أو ضعف الصادرات الأخرى، أو لأي أسباب أخرى، أدى إلى أسباب كارثية رفعت من قيمة السلع المستوردة، وانعكس ذلك على السوق المحلي، و على الشرائح الضعيفة. الخطأ الثالث في اعتقادي ما قامت به الدولة من قيود صارمة فيما يختص بالواردات، فعلى الرغم من أن الأهداف المعلنة لهذه القيود تتمثل في خفض فاتورة الاستيراد لصالح الإنتاج المحلي، وتقليل حدة توجه المجتمع نحو الاستهلاك، بعدم استيراد السلع الغير ضرورية، أو ما يسمونها بالكمالية، إلا أن الشاهد أنه ولا واحد من تلك الأهداف قد تحقق، وها نحن أقرب إلى المجتمعات الاستهلاكية في بعض الشرائح، والأكثر قرباً نحو المجتمعات التي تبحث عن (الستر) ولقمة العيش في الشرائح الأخرى. الدولة تحتاج إلى إعادة نظر في كثير من المعالجات الخاصة برفع تكاليف المعيشة، وعلى رأسها الدفع بسياسات جديدة تحفز الانتاج، ولا تغل يد المنتج الحقيقي في الزراعة والصناعة، فهذه القطاعات هي الأولى بايجاد معالجات للمشاكل الضخمة التي تكبلها الضرائب، الجمارك، الرسوم.. الخ.