ü ظللت أتابع كل ما يكتب عن «القصة الخبرية» المعنونة «الحراك الاصلاحي في حزب المؤتمر الوطني» طوال الأسابيع الماضية، وبصراحة، لم أكن أنوي التعليق على هذه «القصة» وتطوراتها، من مذكرة وتحقيق وخلاف مع تشكيل لجنة التحقيق وتوصياتها للمكتب القيادي للحزب وحتى قرار الحزب بفصل ثلاثة من قادة «التيار الاصلاحي» الذي يقوده د. غازي صلاح الدين العتباني ورفع ذلك القرار لمجلس الشورى وانتهاء بقرار مجموعة غازي بتشكيل حزب جديد. ü لم أكن أنوي تناول هذه «القصة الخبرية» لقناعة تشكلت أو متشكلة لدي أصلاً بأن هذا حراك وتحرك لا طائل منه ولن يضيف تغييراً ذا بال على الخريطة السياسية أو حتى يحدث خلخلة كبرى أو انشقاق مهم يقعد أو يهز الحزب الذي خرج منه. وذلك لسبب بسيط هو أن الدكتور غازي عاش لما يقارب ربع القرن من الزمان في إطار هذا الحزب وكان جزء لا يتجزأ من منظومته القيادية، وهذا يعني أنه يتبنى قناعات تتفق من حيث المبدأ مع أفكار هذا الحزب، ومشروعه السياسي ودستوره وتنظيمه، وأكثر من ذلك- وهذا هو المهم- مع الطريقة التي قفز بها هذا الحزب من مقاعد البرلمان في الديمقراطية الثالثة إلى كراسي الحكم وتشكيل نظام من حزب واحد، في مجافاة وتعارض صريح مع التطور الدستوري وحكم الشورى والديمقراطية ومارس «التمكين» في مفاصل الدولة و السلطة والثروة، وأقصى القوى جميعها و زج بها في السجون لا لسبب سوى أنها تمثل «الرأى الآخر» المرفوض. ü لكن تقريراً ورد في جريدة «الخرطوم» يوم الاثنين الماضي تحت عنوان «غازي.. سر المعْبَد وإيكاروس» كتبه الاستاذ شوقي عبد العظيم هو ما دفعني لهذه المساهمة وغيَّر رأيي في الامتناع عن الكتابة حول تلك «القصة الخبرية». فقد عجبتُ فور قراءة ذلك التقرير لتلك المقارنة القسرية والظالمة لما اعتقد الكاتب انها وجوه شبه بين «قصة غازي» وقصة المحامي المصري ثروت الخرباوي العضو القيادي السابق في جماعة المسلمين صاحب كتاب «سر المعبد». بينما الحقيقة هي أن البَوْن شاسع بين القصتين وموقف الرجلين الفكري والسياسي وحتى التنظيمي. ü غازي لم يقل في أي لحظة أنه رافض لفكر الإخوان المسلمين أو أنه انفصل سياسياً أو فكرياً عن حركة «الاسلام السياسي» أو أقدم على مراجعة فكرية شاملة لانتماءاته السابقة.. وجل ما فعله هو أنه كان الأكثر انفتاحاً واهتماماً بين أقرانه للتواصل مع القوى السياسية الأخرى وأبدى- بطريقة فردية غير مؤسسية- قبول مشاركتها في الحراك السياسي للبلاد، كما أبدى بعض الملاحظات من وقت لآخر على ممارسات حزبه في محطات بعينها عبَّر فيها عن ضيقه بعدم احترام الحزب «للرأى الآخر» وبديكتاتورية القيادة وسيطرة قلة من القياديين المتنفذين على صناعة القرار في الحزب. وهو ضيق قد يجد الاحترام من بعض أعضاء الحزب أو المراقبين باعتباره «نزعة ديمقراطية» تعتمل داخل نفس غازي. لكن غازي الذي وافق على الاستمرار عضواً قيادياً وفاعلاً في حزب وصل إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، حزبٌ هو واجهة سياسية لسلطة الانقلاب، أضيف عليها بعض «التوابل» من عناصر من خارج تنظيم «الجبهة القومية الاسلامية» التي رتبت لانقلاب 30 يونيو 1989 وواصل العمل في اطار هذا الحزب ونال فيه أعلى المناصب، وظل حتى آخر لحظة يصرُّ على البقاء فيه حتى قرر الحزب فصله والتخلص منه. غازي الذي وافق على كل ذلك لا يحق له اتخاذ لبوس وسمْت «البطل الديمقراطي» لأنه ليس مؤهلاً فكرياً ولا نفسياً ولا تاريخياً للعب مثل هذا الدور، قبل أن يعتذر عن كل مواقفه الفكرية وانتماءاته السابقة أو المستمرة حتى خارج إطار «الحزب»، الذي هو الذراع السياسي ل«الحركة الاسلامية» التي لم يعلن غازي أبداً أنه أصبح خارجها أو انسلخ عنها كما فعل ثروت الخرباوي صاحب «سر المعبد». ü فثروت الخرباوي بكتابه «سر المعبد» الذي يكشف عن «الاسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين» بحسب عنوانه الفرعي، وكتابه الآخر السابق «قلب الإخوان» الذي يسلط الضوء على ما يسميه «محاكم تفتيش الجماعة» كما جاء في عنوانه الفرعي أيضاً، فقد مارس اعتذاراً بل إنقلاباً كاملاً على فكر وتنظيم الجماعة التي انتمى لها خلال كل سنوات عمره الواعي منذ أن كان طالباً، وقرر أكثر من ذلك فضح مناهجها الفكرية ومسالكها وتدابيرها التنظيمية، فصنفته الجماعة في خانة «الأعداء» وليس ضمن دعاة «الاصلاح» أو التطوير كما هو الحال مع د. غازي صلاح الدين، الذي فوجيء في آخر أيامه بأن دعوة «الاصلاح» ليست مقبولة من إخوانه وزملائه الذين قرروا إبعاده وإخراجه من الحزب، والذي قد يترتب عليه- بالتداعي- صرفه حتى من صفوف «الحركة الاسلامية»، التي شهد مؤتمرها الأخير ايضاً تجاذباً بين غازي وجماعته والأغلبية النافذة في الحزب والدولة. ü ثروت الخرباوي الباحث عن الحقيقة يقول في الفصل الأول، تقديماً لكتابه، والذي جاء تحت عنوان «صوت الحرية»: أزمنة وأمكنة تتجمع في إناء واحد ثم تتفرق فيذهب كل منها إلى حال سبيله، تتجمع الأزمنة والأمكنة في عقلي ثم تغادرني فاقتفي أثرها، أبحث عن الحقيقة فيخاطبني صوت ينبعث من داخلي: إنك لا تبحث عن «الحقيقة» ولكنك تبحث عن «الطريقة»، حرر نفسك من الطريقة لتجد نفسك في قلب الحقيقة. ü فهل تخلى غازي عن «الطريقة»- ذات الطريقة القديمة في التفكير والتدبير- وتحرر منها ليجد نفسه في قلب «الحقيقة» كما جرى مع الخرباوي؟.. حتى الآن ليس هناك ما يشير إلى ذلك، وجل ما يأمل فيه غازي وصحبه حتى الآن هو «اصلاح الطريقة» ذات الطريقة وذات «المشروع القديم» الذي أفنى جل سنوات عمره في خدمته.. ليكون غازي بذلك «لا غزا ولا شاف الغزا» على قول المثل.