بينما كان الجميع، وفي مُقدّمتهم الشريكان الحاكمان - المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان والإدارة الأمريكية يستعدون لقمة نيويورك الدولية حول السودان، أطلق رئيس حكومة الجنوب النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق سلفا كير تصريحاً من العاصمة واشنطن سارت بذكره ركبان الفضائيات والصحف حتى بلغ أبيي، وكأنه سحابة الخليفة العباسي هارون الرشيد التي راقبها مطمئناً فقال قولته: «أينما تهطل يأتيني خراجها». وشتّان بين سحابة الرشيد العائدة عليه بخير الخراج على أي أرض هطلت من أركان إمبراطوريته وسحابة سلفا كير الحاملة للمطر الأسود والمنذرة بشر مستطير في ركن أبيي القصي في «إمبراطوريته» المضطربة. ففي ذلك التصريح أمام الكتلة السوداء من أعضاء الكونغرس الأمريكي، الذي أذاعه الأستاذ دينق ألور وزير التعاون الدولي بحكومة الجنوب وأحد أبناء أبيي الخُلص، قال سلفا كير بعد تأكيده على أن موعد الاستفتاء «خط أحمر» -وما أكثر الخطوط الحمراء في أيام السودان الغبراء هذه- قال كير: إنّ قضية أبيي منتهية، لا سيما وأن هيئة التحكيم الدولية حسمت مسألة الحدود، وحددت لكل من الدينكا - أنقوك والمسيرية مناطقهم. وقال ألور على لسان رئيسه: إن كير شدد كذلك على أن دينكا-أنقوك هم من سيُستفتون بشأن أبيي، وإن «أي حديث عن إشراك المسيرية في الاستفتاء لن تقبل الحركة مجرد النقاش حوله». وكما أشرنا في «إضاءة» الأربعاء الماضي فإن ذلك التصريح جعل «دنيا أبيي تقوم من أطرافها على الفور»، ولم يتأخر رد المسيرية الذي جاء على لسان القيادي بالقبيلة محمد عبد الله آدم - في تصريح ل(آخر لحظة)- في اليوم التالي مباشرة إذ قال: إنّ ما قال به سلفا كير يُخالف اتّفاقية السلام والدستور الانتقالي لعام 2005م وبروتوكول حل النزاع والقانون الخاص باستفتاء المنطقة المجاز بواسطة المؤتمر الوطني والذي رفضته المسيرية، ذلك القانون الذي أشار إلى أن التصويت لاستفتاء المنطقة «لدينكا-أنقوك وسودانيين آخرين». آدم طرح سؤالاً استنكارياً حول من هم هؤلاء السودانيين الآخرين محتجاً على عدم إدراج اسم قبيلته -المسيرية- صراحة في ذلك القانون كمبرر لرفضها له، وليجيب على السؤال بقوله «إن هؤلاء -السودانيين الآخرين- هم المسيرية والقبائل الأخرى بالمنطقة وهم بنص القانون لهم الحق في التصويت»، وأوضح أن المسيرية غير معنيين بتصريحات سلفا كير. لكن سحابة المطر الأسود لم ينته رذاذها عند هذا الحد، بل شجّعت آخرين في أبيي ذاتها للقيام بما هو أخطر، فبحسب صحف الجمعة، حيث قامت «منظمات المجتمع المدني» من أبناء الدينكا والتي تم تصنيفها -دون تدقيق- بالتبعية للحركة الشعبية بصياغة مذكرة سلمتها للسيّد رحمة النور نائب رئيس إدارة أبيي المؤقتة تمهله (شخصياً) وأبناء المسيرية المنخرطين في عضوية المؤتمر الوطني - بمن فيهم أعضاء المجلس التشريعي والتنفيذيين- (72) ساعة لمغادرة المنطقة. رحمة النور أكد في تصريح ل«أخبار اليوم-24 سبتمبر» صحة تلقيه للمنشور (المذكرة) التي اتهمته أيضاً بعدم تقديم أية إنجازات منذ تكليفه كنائب لرئيس إدارة أبيي المؤقتة، كما حّملت المسيرية بعض الأحداث التي شهدتها المنطقة مؤخراً في تاج اللّي ومريال أجاك وماكير. وبحسب «أجراس الحرية» فإن نائب رئيس إدارية أبيي اتّهم الحركة الشعبية بأنها تقف وراء تلك التنظيمات، لكن رئيس اللجنة التنسيقية العليا لمنظمات مجتمع أبيي المدني «د. كارلو كوجور» رفض بشدة تلك الاتّهامات حول مسؤولية الحركة، ورأى وفقاً لما أوردته الصحيفة: أنه حتى في حال عدم الرضا عن أداء النور فإن الوسيلة المُثلى للتعبير عن ذلك هي المطالبة سلمياً باستبداله. سحابة المطر الأسود المنطلقة من واشنطن لم تتوقف عند أبيي بل استدارت لتغشى العاصمة الخرطوم حيث تظاهر ناشطون من أبناء أبيي هنا وسلموا -كما أوردت جريدة «الصحافة»، 24 سبتمبر- مذكرة للأمم المتّحدة طالبوا فيها بالتنفيذ الفوري لقرار هيئة تحكيم أبيي وتكوين مفوضية الاستفتاء الخاصة بالمنطقة، وحذرت اللافتات التي حملها الناشطون المحتجون من التلاعب بمصير أهالي أبيي، وطالبت بإيقاف «عمليات استيطان المسيرية في المنطقة». هذا المطلب الأخير الذي حملته اللافتات المحتجة هو صدى لاتّهامات سابقة صادرة من المنطقة ومسؤولين فيها يتبعون للحركة الشعبية بأن المؤتمر الوطني يقوم بترتيبات لتوطين بعض أبناء المسيرية في منطقة أبيي استباقاً للاستفتاء واستعداداً لترجيح كفة خيار البقاء ضمن الشمال، وهي ترتيبات -إن صحّت- يكون المؤتمر قد «أتى شيئاً إدا» وفعلاً منكراً، لأنه سيؤدي إلى مزيد من زعزعة الثقة -المُزعزعة أصلاً- بين الشريكين، وربما تكون هي الحافز الذي شجّع «منظمات المجتمع المدني» هناك، للإقدام على هذه الخطوة المتهورة التي تطالب المسيرية بمغادرة المنطقة خلال (72) ساعة بدون رجعة! لكن عجائب العلاقة بين الشريكين الحاكمين لا تنقضي، ففي الوقت الذي يحدث كل هذا الشجار والعراك حول مصير أبيي نقرأ في صحف الجمعة ذاتها عن توقيع «اتّفاق للتوأمة» بين ولاية الخرطوم وولاية الاستوائية الوسطى (جوبا)، ويدعو حاكم الاستوائية الوسطى السيّد كلمنت واني في مؤتمر صحفي بمقر قطاع الشمال يوم الأربعاء مواطني الولاية المُقيمين بالخرطوم إلى البقاء في العاصمة إلى حين انتهاء العام الدراسي، في إشارة إلى دعوة حكومة الجنوب للمواطنين للعودة تحت شعار «عد لوطنك لتختار» وشدد واني على «عدم إثارة الكراهية بين الشعبين»، في حين شرح نائب الأمين العام للحركة الشعبية الأستاذ ياسر عرمان الخطوة ب«إن التوأمة لا علاقة لها بالاستفتاء على تقرير مصير شعب جنوب السودان» لافتاً إلى «أن للولاية الاستوائية تعاون مع الكويت وواشنطن».. توأمة بين الخرطوموجوبا ورفض لفكرة جعل أبيي منطقة تكامل و«نفاجاً» لشطري الوطن ونموذجاً لوحدة مستقبلية في حال الانفصال! كل هذا الاضطراب في المواقف، كل هذا الحراك، السلبي والإيجابي منه، يوحي للمراقب الحذر أننا نقف بالفعل على أعتاب مرحلة جديدة وأن الأقلام تتزاحم لكتابة تاريخ جديد للوطن، ربما يحمل بعض ملامحه الموروثة عبر القرون وربما يسطر سجلاً جديداً لا علاقة له بما كان. والعالم من حوله يجتمع ويتحلّق هناك في نيويورك حول مريض شارف على الهلاك اسمه «السودان»، ولو صحّ ما استبقت به جريدة «الصحافة»، أمس الأول الجمعة بقية الصحف حول «مسودة البيان الختامي» لمؤتمر نيويورك اعتماداً للإعلان الذي اتّفق عليه الشريكان والرسالة التي وجهها الكونغرس للرئيس أوباما، فإنّه يمكننا القول منذ الآن إنّه لا جديد، وإنّها مجرد «خطوات تنظيم» أو «مكانك سر» وستعود «حليمة» الشريكين لعادتها القديمة، خصوصاً عندما نقرأ أثر التصريحات المنطلقة من واشنطنونيويورك على أرض الواقع هنا. لا جديد في إعلان الشريكين الالتزام بإجراء استفتاء الجنوب وأبيي في موعده، ولا جديد في خطة عمل لحل القضايا العالقة في اتفاق نيفاشا أو ترتيبات ما بعد الاستفتاء، ولا جديد في المطالبة بتسريع عمل مفوضية الاستفتاء أو احترام نتائجه أو التشديد على إجراء المشورة الشعبية في النيل الأزرق وجنوب كردفان أو الإشادة بدور المجتمع الدولي في الوصول لحل شامل لأزمة دارفور. كل هذا نسمعه كل يوم و«الحال في حاله» فهل سيُحقق مؤتمر نيويورك اختراقاً أفضل أو أهم من «تأمين اختراق وحدة السودان»؟! أشك في أنّه سيفعل أكثر من ذلك، ولو فعل فعلى الأقل سيجنبنا انهيار السلام و«الانفصال العدائي» الذي تتجمع سحبه السوداء في سماء أبيي، ومع ذلك سنبقى نلوك الحسرة على وطن عملاق تسرّب من بين أصابعنا بغفلة العصبيات المُسيطرة على عقولنا وغشاوة الآيديولوجيات قصيرة النظر المتحكمة بأبصارنا وبصائرنا!