أعلم أن المؤتمر الوطني رغم أنه اكتسح الانتخابات الأخيرة إلا أنه يعاني من أزمة ضمير «مفادها أنه حصل على أغلبية برلمانية زائفة»، فالأمر يتطلب بعض التحسينات للاستمرار في الحكم بصورة أفضل،إذ لم يعد الأمر كما كان قبل الانفصال.. إذ يواجه المؤتمر الوطني صعاباً وعقبات تعجزه من استمراره في الحكم منفرداً، بالإضافة للمشكلات التي أفرزها الانفصال وما تثيره المعارضة من نقد، بالإضافة للضغط الدولي والإقليمي «العربي» الذي يزداد يوماً بعد يوم، لذلك يسعى المؤتمر الوطني بكل الوسائل، نقول ثانية بكل الوسائل لاصطفاف بعض الأحزاب المعتبرة لجانبه لمشاركته الحكم «اسمياً»، ويسعى أيضاً بكل الوسائل لكي لا تكون هناك معارضة، وأخذ يتلقف ما تطرحه الأحزاب السياسية من وفاق أو تراضٍ وطني ولم للشمل بأنه أمر يصب لصالحه.. ويصف تلك الأحزاب بأنها أحزاب وطنية في محاولة للحيلولة بينها وبين المعارضة، ويعمل على جعلها لا هي حكومة ولا هي معارضة لتصبح هكذا بين بين، غير أن الموقف لن يدوم طويلاً، و«لكل أجلٍ كتاب»، وإن ما تطرحه بعض القوى السياسية من نصح ونقد وهي تفعل ذلك من «باب التدين» حيث الوقوف مع الإمام الغالب خير من الخروج عليه حقناً لدماء المسلمين. المؤتمر الوطني وهو يمسك بزمام الأمور لربع قرن من الزمان تبين له إن رضى الجماهير هو رضى مرحلي «مؤقت»، وتبين له أن انفراد شريحة محددة برسم السياسات وتنفيذها مع استبعاد باقي الأمة، وتبين له أن عضويته مهما بلغت عبقريتها وطهرها ونقاؤها وتجردها بأن هذا النوع من التجرد المستحوذ على السلطان بالقوة لا يلغي رغباتهم وتطلعاتهم الشخصية «كبشر»، إذ يصبح هؤلاء طال الزمن أوقصر طبقة حاكمة تتبادل المصالح فيما بينها وتبحث عن مراكز للقوة، بل وتبنيها خوفا من العزل او الزحام وهذا ما حدث في معظم الدول ذات الحزب الواحد لهذا ولغيره اضطر لابعاد بعض القيادات النافذة فوق دهشة الجميع لينأى بنفسه من التعصب الإخواني الإرهابي. المؤتمر الوطني بعد مضئ ربع قرن من الزمان في الحكم فهو لايرغب في مغادرته لاي سبب من الأسباب غير أنه بعد شعوره بالعجز مؤخراً واستجابته للضغوط الخارجية والداخلية رأى أنه لكي يستمر في الحكم لابد من إشراك اخرين معه لكي يتدارك عجزه باستجلاب افكار واراء من من يتم اصطفافهم لجانبه لا لاشاعة الديمقراطية والحرية كما يقول ولكن ليتغذي بافكار واراء جديدة اضافية لتكريس سلطته لان الحزب الواحد الحاكم يظل يدور حول نفسه وفلك افكاره التي تتجسد علي الدوام للبحث عن كافة الوسائل اللازمة للاستمرار في الحكم . بالرجوع لحال المؤتمر الوطني اليوم نجده في أسوء حالاته تحت الضغط الدولي والاقليمي (العربي) الذي أدي الى ابعاد بعض القيادات المتشددة والمتمسكة بنهج الاخوان المسلمين الذين يشكلون الآن الإرهاب الإقليمي خاصة في الدول العربية تحت هذا الضغط والانهيار الاقتصادي كان لابد للخضوع للامر الواقع واستبعاد تلك الوجوه والانفتاح علي الجميع لايجاد مخرج ليبقي المؤتمر الوطني في الحكم ولو إلى حين. غير أن المؤتمر الوطني بحكم منهجه وآيدلوجيته ومشروعه الحضاري لايمكن أن يمد يده للجميع فقام باستبعاد اليسار في حواره مع القوي السياسية أو على الأقل تهميشه في الوقت الحاضر والاتجاه إلى ما اسماه في مؤتمر الحركة الأخير «بأهل القبلة» وكأن أهل اليسار لا علاقة لهم بالقبلة فأخذ يسعى لاصطفاف القوى السياسية ذات المرجعية الدينية، وبهذا السلوك فإن المؤتمر الوطني يعمل علي تفتيت الأمة إلى شقين يمين ويسار معتمداً ومتصالحاً مع اليمين العقدي الذي يشكل الجبهة الإسلامية سابقاً المؤتمر الوطني والشعبي والإصلاح الآن والتي هي حقيقة الإخوان المسلمين منهجاً وسلوكاً.. هذا بالإضافة لمن استوعبهم في السابق من الجماعات الإسلامية التي تعتبر من أهل القبلة أنصار السنة والإخوان المسلمين التقليدين وغيرهم .أجزم أن المؤتمر الوطني قبل خطابه الذي تلاه رئيسه رئيس الجمهورية قد التقى الأحزاب ذات المرجعية الدينية سراً واتفق معهم على أمور كثيرة سوف تكشف الإيام عنها إذ لا يتصور عقلاً وعادة أن يستجيب هؤلاء لمجرد الدعوة.. أما حزب الأمة فهذا قد خرج من المسرح السياسي من زمن فرأى أنه في حاجة لاصطفاف مع أي جهة ليعود للسطح ثانية لأن الصراع في داخله أخذ في الاتساع كما أن موقفه من السلطة يجعله قابلاً لأي اتفاق مع المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية خاصة بعد أن ترك قوى الإجماع الوطني، فلا مانع له أن يرفع راية أهل القبلة فهي مسرح جيد لأفكار رئيسه الذي يعتبر أنه مفكر إسلامي يمكن أن يطور فكرة أهل القبلة وبهذا يستطيع قيادتها في مقبل الأيام. المؤتمر الوطني بعد ضغوط كثيرة أهمها الخارجية يود أن يغير جسده بجسد آخر ولكن ليس تغيرا جذريا فعمد على اصطفاف اليمين التقليدي «حزب الأمة» وبعض التيارات الإسلامية الأخري ليبعد عنه شبح «الإخوان»، فكان ذلك المهرجان الذي أعد بعناية فائقة للاستماع لخطاب الرئيس كمقدمة ضرورية لما سيأتي فيما بعد. عمد المؤتمر الوطني على شق الصف الوطني ليمين ويسار واصطفاف اليمين بجانبه، غير أن موقف الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل من هذه المعادلة هو الوقوف على مسافة واحدة من اليمين واليسار، فهو حزب الوسط و صاحب دعوة الوفاق الوطني قبل أن يقول بها المؤتمر الوطني الذي يبدو أنه تراجع عنها مؤخراً باشتراط إجراء الانتخابات في مواعيدها ورفضه القاطع لحكومة قومية أو انتقالية. المؤتمر الوطني الآن يمر بمرحلة حرجة نتيجة دفعه للصف الثاني لقيادة السلطة التنفيذية والتشريعية وقيادة الحزب ، فهؤلاء القادة قليلو التجربة والقدرة علي القيادة لما لاقاه البعض من إحباط أو مارآه من فساد لمن سبقوه في قيادة المؤسسات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والحزب وقد تم اختبارهم علي أساس قبلي وجهوي . المؤتمر الوطني الآن يعاني من الجهوية والعنصرية والقبلية أكثر من أي وقت مضى ، ليس في إدارة الدولة فحسب بل في تنظيمه السياسي ، وهذه عوامل سوف تقود لأنهياره مستقبلاً ، فالمؤتمر الوطني منذ البداية عمل علي تذكية الجهوية والعنصرية والقبلية بحرمان الشعب السوداني من الانتماء لمؤسساته السياسية وحل الأحزاب فلا سبيل للإنسان السوداني إلا باللجوء للجهوية والقبلية والعنصرية كملاذ للإحساس بالأمان، فهذه هي طبيعة النفس البشرية التي لابد لهامن الانتماء والاجتماع ،وهذا ما اكده التقرير السياسي الذي قدم لمؤتمر الحركة الإسلامية السابع والذي جاء فيه «قد أدركت الحركة أن حل الأحزاب السياسية في بداية عهد الإنقاذ رغم كونه ضرورة أمنية ملحة آنذاك، إلا أن آثارها كانت سئية لقد أدى غياب المواعين السياسية ممثلة في الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى لجوء بعض الجهات إلى التعبير عن نفسها اثنيا وجهوياً وأسهم هذا الغياب بالتالي إلى جانب عوامل أخرى في ظهور الإثنية المسيسة التي تعد الآن اكبر التحديات التي تواجه الدولة السودانية». استطيع أن أقول لقد دلت التجارب على أن الحزب الواحد الحاكم في السودان وفي جميع أنحاء العالم يتمسك بالسلطة ويتشبث بها ويقتل الناس من أجلها مهما كانت النتائج والانعكاسات فمثل هذا الحزب تكون له قناعة شديد بأنه يفعل ذلك لأنه يدافع عن حقاً من حقوقه كما نجد أنه من النادر أن نعثر على حزب واحد يحكم البلاد أنه تنازل عن الحكم طواعية لحزب آخر نزولاً عن رغبة الجماهير ولو تم ذلك عن طريق الانتخابات والانتخابات يعتبرها الحزب الحاكم وسيلة للاطفاء الشرعية علي حكمه حيث يعمل علي تزويرها مهما كانت المراقبة دولية او غيرها لهذا يطلق المؤتمر الوطني غباراً كثيفاً على ضرورة الاستعداد للانتخابات والوعد بعدم تزويرها وانها ستكون حرة ونزيهة،وكذلك دلت التجارب أن الحزب الواحد لا يقبل بوجود حزب قوي آخر ينافسه على سلطته المطلقة الأبدية، وإن وجده عمل على قتله. إن السودان بعد انفصال الجنوب أصبح مواجهاً بالمزيد من الأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وإن المصلحة الوطنية العليا تتطلب من جميع الأحزاب والقوي السياسية الأخرى التوصل لوفاق وطني بعد أن حلّ بالسودان وما قد يحل. انطلاقاً من هذه الرؤية سبق أن عقد حزبنا مفاوضات مع حزب المؤتمر الوطني حول الدستور في إطار مفاوضات حزبنا مع حزب المؤتمر بشأن المشاركة في الحكومة العريضة. وفي ذلك السياق أكد حزبنا الاتحادي الديمقراطي الأصل أنه على حزب المؤتمر الوطني إعادة النظر في منهجيته في إدارة أمر الوطن والإقرار بأن حزباً واحداً لايستطيع أن يحكم السودان بمفرده بعد التاسع من يوليو 2011، إلا إذا أراد أن يحكمه بذات الفهم الآحادي الذي انتهى بالسودان لانفصال الجنوب، وترسيخاً لتلك الرؤية فإن الوضع القائم الآن لايتلاءم بل ويتناقض مع مبادئ وأسس وقواعد الديمقراطية التي سعى الدستور الانتقالي لسنة 2005 لإبرازها، فضلاً عن أن التغييرات الجارية والتطورات السياسية المتلاحقة التي سادت وتسود منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي تقتضي النظر إليها بعين بصيرة وأفق واسع حتى تتجاوز البلاد أزمتها الراهنة .