ü كتب بعض الناشرين وبعض الصحافيين بإحدى صحف الخرطوم مهاجمين خطوة وزارة العدل وديوان المراجع العام بمراجعة «حسابات» شركة كنانة لصناعة السكر. ü أقر أحدهما بضرورة المراجعة وأن لا تغل يد المراجع العام أو يحال دون مهمته، وأكثر من ذلك بضرورة أن تأتي المراجعة في وقتها بحيث لا تأتي بعد أن يقع التعدي على المال العام من خلال اسناد «المراجعة الداخلية» إلى الديوان وليس لمدير المنشأة والمؤسسة حتى لا يصبح المراجع الداخلي تحت إمرة مديره ويعمل بتوجيهاته.. وكل هذا كلام جميل ينم عن حرص على المراجعة ودورها في حراسة المال العام. ü لكن الكاتب قال إنه فوجيء «بالغضبة المضرية» في مواجهة «سكر كنانة» وفتح بلاغ في مواجهة مديرها، مع أن هناك مؤسسات وشركات سودانية خالصة تأبت على المراجعة لسنوات.. بينما القانون يقول- وهذا هو المهم- إن أية شركة أو مؤسسة تساهم حكومة السودان بأكثر من (20%) من رأسمالها يجب أن تخضع للمراجعة، وهذا ما تجاهله الكاتب، استناداً إلى مواقف تلك الشركات والمؤسسات الحكومية التي ترفض المراجعة ولم تفرض عليها الدولة سلطة القانون. ü واستحدث الكاتب معادلة جديدة في أمر المراجعة، لا أدري من أين أتى بها وهي: إن المراجعة تصح في حالة ما إذا كان الشركاء الآخرون من السودانيين، أما وأن «كنانة» تعد من الاستثمار المشترك وأن اتفاقاً وقِّع بين الشركاء عند تأسيسها أن تخضع لمراجع خارجي حتى لا يقع خلاف بين الشركاء ويدفع كل شريك بمراجع دولته لمراجع انتاجها وأرباحها مما يربك الشراكة ويجعلها خاضعة للتجاذبات والتقاطعات، ولعل هذا ظل عرفاً مستقراً منذ تأسيسها عبر السنوات، على حد قوله.. وعبر عن خشيته أن تقودنا الخطوة التي اقدمنا عليها إلى منزلق لم نتحسب له، خصوصاً ونحن في مرحلة نحاول أن نشجع الاستثمار العربي ليُقبل على بلادنا. ü وأطرى الكاتب انجازات كنانة وقال إنها مضرب المثل لنا وللآخرين في النجاح الذي يمكن أن يحققه تكامل الاستثمار العربي، وأن هكذا نجاح يجب أن ندعمه وأن نجعلهُ عنواناً للآخرين.. وهكذا خطوة سترعب الآخرين المتأبين.. وأن أمر الاستثمار والاقتصاد الذي لا ينفصل عن السياسة يجب أن لا يترك «للديوانيين» وللاجراءات الصماء التي لا تقرأ المترتبات والمنقلبات والمآلات. ü أما «الكاتب الناشر» في ذات الصحيفة فقد رأى في مراجعة كنانة مؤامرة دبرتها «مافيا المال» التي عاثت فساداً في الأرض وفي ولاية الجزيرة ومشروعها حتى استحال أديمه ووهنت قواه، وهي تحط رحالها الآن على واحد من انجح المشاريع الاستثمارية العربية في بلادنا التي ظلت تعمل لأكثر من 38 عاماً محققة أرباحاً طائلة ومجزية لمساهميها، وقرر أعضاء هذه المافيا أو «الفئة الضالة»- كما اسماها- أن يوجهوا سهامهم صوب شركة كنانة، وتحديداً نحو من وصفه ب«ربانها الأخ الأرباب المرضي» مضيفاً أنهم زعموا أن أمر اعتقاله قد صدر من جهات سموها ونسوا في خضم حقدهم الدفين أن هذا الأمر سيكون مضراً بالنسبة للسودان، أوكما قال. ü خلاصة ما كتبه «الصحافي» و «الناشر» هو الدفاع عن شركة كنانة و «حقها» في أن لا تمتد إليها يد المراجعة من قبل سلطات القانون السودانية ممثلة في وزارة العدل وديوان المراجع العام، وليس من «ديوانيين» أو «مافيا» كما زعم الكاتبان، وأن تظل تعمل هكذا خارج رقابة الدولة وسلطانها «لأنها شركة استثمارية» و «عربية» وناجحة، وهذا منطق يدعو للدهشة والاستغراب خصوصاً عندما يصدر من دوائر الصحافة، التي من أقدس مهامها الرقابة والمتابعة وارسال الأضواء الكاشفة إلى الأركان المعتمة في حنايا وزوايا المؤسسات والمنشآت، العام منها والخاص على حد سواء، و«المراجعة» هي إحدى وسائل الكشف عن الأخطاء والخطايا والألاعيب. ü هم يعتقدون إن المراجعة وإعمال سلطة القانون تنفِّر المستثمرين، وما دروا أن غياب المراجعة والشفافية واطلاق يد المفسدين هو معول الهدم ومصدر الشكوك والمخاوف التي تستبد بالمستثمرين وتجعلهم في حالة قلق دائم على أموالهم وحقوقهم. فالمستثمر العربي والأجنبي عندما يزور بلادنا بغرض اقامة مشروع يشعر بالضيق أولاً من الاجراءات الروتينية المطولة التي تستهلك وقته، وهذه مشكلة، لكن المشكلة الأعظم التي تجعله يتخذ قرار الرحيل إلى غير رجعة هو إحساسه بغياب «دولة القانون» خصوصاً عند يلتف من حوله أولئك «المُسهّلون»- أو المستهبلون، لا فرق- الذين يرسلون نظراتهم الفاحصة إلى أعماق جيوبه ويحاولون إغرائه بأنهم «سيسهلون عليه» تجاوز الاجراءات والقانون بعلاقاتهم «العامة والخاصة». فدولة القانون وصرامة تطبيق النظم العدلية واللوائح على كل من يعمل في أرض الدولة هي التي تشجع الاستثمار. وإذا كان هناك اتفاقاً بأن يدخل الشريك العربي أوالأجنبي في مراجعة حسابات شركته فهذا لا يضير، بل بالعكس فذلك يحفظ حقوق جميع الأطراف، ولكن أن يُحرم السودان، وهو الذي صدق بالمشروع وسمح بإقامته في أرضه ويستثمر موارده الطبيعية والبشرية، من حقه في مراجعة ما يجري في هذه الشركة أو تلك- كنانة أوغيرها- خصوصاً وهو شريك أصيل بنسبة معلومة في المشروع فذلك يعني الفوضى واطلاق الحبل على غارب الشركات المستثمرة دون رقيب أوعتيد. ü أما «كنانة» على وجه الخصوص التي نشأت في ولايتنا «بحر أبيض» منذ ما يقارب الأربعين سنة، تستغل أرضها وتستنزف مياهها وتلوث نيلها بمخلفات الانتاج، فأهل بحر أبيض يعرفون «سر نجاحها» وأسرار تفوقها، التي أقلها أنها لا تقدم لأهل تلك الولاية أية نصيب في «قسمة الثروة» الناتجة من أرضهم ومياههم برغم كل تلك النجاحات، فليس لأهل تلك الولاية «حق معلوم» في ما تنتجه كنانة أو تصدره من سكر أو ايثانول أو أي شيء من منتجاتها المتعددة، والحجة في ذلك إنه «مشروع قومي» أو أنه «شراكة اجنبية أو عربية» ومع الوقت تحولت كنانة إلى «إمبراطورية خبرة» تتمدد إلى جميع أنحاء الولاية وتقيم المشروعات لتجني المزيد من الأرباح، والاغراء الأكبر الذي تحوز به كنانة على قلوب صناع القرار في الحكومات السودانية المتعاقبة هو أنها تنتج سكراً رخيصاً تضع عليه الحكومة رسوماً باهظة ومضاعفة ترفد خزانة الدولة، ولكن من جيوب مواطنيها! ü حان الوقت لأن تفتش الدولة بوزارة عدلها ووزارة صناعتها وبمراجعها العام ليس في «حسابات كنانة» فقط ولكن في جميع ملفاتها، بما في ذلك حقوق ولاية النيل الأبيض وعلاقات الإنتاج وحقوق العاملين فيها، وعمليات الاستيراد والتصدير التي تجريها الشركة، حتى يكون كل شيء تحت نظر الدولة، بما يحفظ للشركة حقوقها القانونية وفوائدها المرجوة ويحفظ للدولة هيبتها وسلطتها على كل من يعمل في أرضها وتحت ظل سمائها، وهذا هو ما يطمئن المستثمرين ويجذب الاستثمار.. الاستثمار الذي يستهدف الوطن وانسانه وليس الأرقام الفلكية للأرباح وحدها ولا شيء غيرها.