تستعيد البوح الآسر من دهليز الذاكرة ، تتمطى مثل قط كسول وانت تحتضن البطانية ، تشعر ان جسمك كحراشف الورل وهو يحتك بالغطاء ، منذ عشر سنوات أو تزيد وانت تحاول الهروب ، تتذكر كل اركان منزلكم ، جدرانه الطينية وسقف الجريد يتحدى الزمن ، كنت قبل ان تأخذك سنوات الغربة الى ايقاع مدن الضجيج ، عفويا مثل شجرة في عمق الصحراء الكبرى ، ذات ضحى في شهر امشير ، كنت تعقد العزم على الهروب من محيطك الضيق ، كنت تخطط باحثا عن طريقة للانعتاق ، كان حلم المدن الصاخبة يستبد بروحك ، في المساء كان كل شيء جاهزاً البقجة والعصا وثمة ملابس مهلهلة هي كل ممتلكاتك ، توجه بوصلتك نحو الجنوب وانت تردد اغنية عفوية عن الرمل والنيل وجذوع النخيل الهرمة ، كل شيء كان حولك صامتا ، الطريق يتمدد امامك مثل كابوس ، اشجار السلم الباهتة تشدو باغنية بدون اوتار وثمة طيور خلوية تتبعك ، ربما تتصور أن في البقجة بعض البذور ، بعد مسيرة ساعة تكتشف انك تصارع في بحار من الرمل اللامتناهي ، رمال تشكل بحرا من التيه اللامتناهي ، تطلق ضحكة مكتومة وانت تسمع اغنيات حزينة صادرة من كثبان الرمال ، اغاني مثل نواح الثكالي في عشيات معتمة ، تتذكر بعض الحكايات عن غناء الجن وكيف ان الاسطورة الشعبية تؤكد انهم يغنون في تخوم الصحاري باصوات مشروخة ، في تلك اللحظة تشعر بالقشعريرة ، تتحسس اطرافك تحوقل وتبسمل وتقرأ آية الكرسي ، فتعود الطمأنينة الى نفسك ، لكن اغاني الرمال تظل تطاردك وتشتت ذهنك ، تستفيق على صوت لوري متهالك وهو يئن في عمق الصحراء ، تزيل الغشاوة عن عينيك وتمسح ببصرك الكليل كافة الاتجاهات باحثا عن الشاحنة اللعينة ، يا الله انها بعيدة كما الحلم ، ترفع بقجتك على العصا تلوح لعل احد يشاهدك ولكن عبرت الشاحنة واختفى ازيزها وبقي الخواء ، في اليوم الثاني لرحلتك تصل لمحطة خلوية ، محطة ساكنوها رجل وامرأتان وعنزات عجاف وثلاثة اطفال تستر عريهم ملابس مهلهلة ، لم تكن تمتلك غير القاء التحية كان العطش يذبحك من الوريد الى الوريد ، يتحلق حولك القوم ، تشعر ان روحك ردت اليك بعد ان كرعت كميات كبيرة من الماء ، تنظر الى حالك يتأكد إنك بقايا انسان ، بقايا تسكنها الريح ولا شيء غير الريح ، تلقي تلويحة الوداعه لسكان الخيمة وتيمم وجهك شطر الجنوب ، تسمع من بعيد ازيز الشاحنات ، تتساءل في سرك لماذا تهرب اللواري عن طريقي ؟ ، وبين غفوة الحلم واليأس تجد ثمة شاحنة ضخمة تتوقف جوارك وتسمع ركابها يدعونك للصعود ، تتشعبط الحديد مثل قرد عجوز، وتتمدد على السطح وتصدر كحة جافة من اعماق صدرك المليء بذرات رمال الصحراء ، ينطلق مساعد سائق اللوري وهو يشدو باغنية نار ام بادر يا حليلها ، تشعر ان النيران تأكل جسدك ، وان الحلم لايزال بعيدا ، فتستيقظ على ايقاع الدنيا ليل برد وسفر