سطرت في دفتر التاريخ حكايات الليالي المورقة سطرت أحزاني وقلقي وكتبت للأحباء الذين رحلوا والذين اغتربوا وقلت لهم إن الحروف لم تعد تقرأ وإن نبضات القلب وأنّات الشوق لم تعد تستطيع التعبير عنها.. لأننا لم نعد نحكي بشيء من التفصيل عن مجريات حياتنا لسبب بسيط وهو أن ساعي البريد قد اختفى وأن طوابع البريد لم تعد تُباع في الأسواق!! لم نعد نكتب لأن حروفنا أحزان وحكاوينا أحزان .. لم نعد نكتب لأن بوحنا قلق وفكرنا قد نضب على أجهزة الاتصال نختزل مشاعرنا.. يتوه عبير الكلمات من أفواهنا.. فنرطن بكلمات لا نستوعبها ونختصر الحروف التي كنّا نمضغها حتى تعبر عن دواخلنا حين نقول (ألو) نبدأ في حساب الوقت حساب الرصيد .. فكل شيء أصبح بالحساب ولأن الحساب ولد كما يقولون فلابد من اختصار دفق المشاعر ودفء الكلمات يكفي أحياناً أن نقول أهلاً ومع السلامة!!. أشياء كثيرة قد تغيّرت في مظاهر سلوكنا الجمعي ويكفي أن رفع السلام لم يعد مهمًا والأخذ بالأحضان تاريخ قد ولى وكان.. لماذا تبلدت عواطفنا هكذا.. ولماذا لم نعد نحزن ونفرح بالقدر الذي كنّا!! نعم جرفتنا الحياة ودفعتنا بتياراتها في مسارات تبعدنا عن الطمأنينة.. لم يعد هناك وقت لبذخ المجاملات المستمرة ولم يعد هناك وقت للتواصل الذي كان مفخرة لكل السودانيين. المدنية قد ضربت الناس.. والعودة للجذور لم تعد متاحة أو ممكنة.. لقد كان الناس في السابق يشدون الرحال لمراتع الصبا فيقضون فيها أياماً يتصالحون فيها مع أنفسهم ويجددون هويتهم وحين يعودون للمدينة يبدأون صفحة جديدة ها هي المدينة تطحن الناس بمشاكلها ومتاعبها المدنية تهد الحيل لمن لا حولة لهم.. المدينة ليست الخرطوم فقط وإنما كل المدن حول العالم التي نزح إليها أهلنا وأحباؤنا بحثاً عن الذات وبحثاً عن حياة حرة وكريمة إحساسنا العام بالفرح بدأ يضمحل ويحل محله حزن نرجسي يغوص في أعماقنا فيكسرها ويهشمها.الفردية أصبحت شعار الحياة والأنانية تقتل المحبة.. حين أنظر في عيون الآخرين أفتقد ذلك البريق الآسر وحين أمد يدي بالسلام غالبًا ما أعانق يداً أخرى أكثر جفافًا من يدي!! لم تعد أيدينا طرية كما كانت ولم تعد أعيننا تحتضن الآخرين بالشوق الذي كان. إن من أكبر المشاكل التي تواجهنا هي مشكلة تواصل الأجيال فالعلاقات الإنسانية التي تضاءلت جعلت الأحفاد لا يعرفون الأجداد ولا يعرفون حتى الأعمام والعمات.. أما الكبار فإنهم ينسون الكثير من التفاصيل يوماً بعد يوم فيدمنون الاغتراب ومن ثم ينسون كل التفاصيل.. الاغتراب المعني قد يكون في الخرطوم أو بورتسودان أو عطبرة أو في أي بقعة من بقاع العالم .. مشكلة العصر أن التواصل المكاني محسوب بالدولار والتواصل الأثيري محسوب الدقائق.. أما تواصل المحبة الذي كان فقد غيبه اختفاء ساعي البريد.