أكتب عن الشاعر الفيلسوف حاج حمد عباس حمودة وفي هذا الشهر تمر الذكرى الثامنة لرحيله ولكن تبقى اشعاره ملاذاً ونبعاً لعشاق المعرفة والشعر والفلسفة وأسأل الله ان يمطر على قبره الرحمة وان انتقل عنا بجسده فمازالت روحه تعطر سماء الشعر في سماوات بلادي. ونجده في اشعاره قد عالج اشكالات انسانية من خلال فلسفته الكونية في مزاوجته بين عدد من الافكار والفلسفات ويختار الرمز والمفردة في لغة شاعرية جاذبة وكان جاداً في بناء النص الشعري رغم الرهق الفكري الذي يعتريه ويصيب جسده وحواسه لكنه يحمل قلمه كالسيف يسطر معركة بعد معركة بصدق وشجاعة ويردد: يحبو دوراني يفلت ساقي ويجف فمي ويدي يغزوها خدر مر أصرخ في اللاشئ يسكن اطرافي فرد الليلة أجلس خلف النافذة الأولى صباً محسوراً أبحث عن قمر نوبي فيه تتمدد أركاني وتغيب الريح وثواني بعد ثواني يحتضر الوقت السرياني وخيول البحر تدور وتركض نحو ضفاف الشمس بأحزاني فطريقة كتابة الشعر لديه جرب فيها كل المدارس الشعرية حتى انه كتب بطريقة الهايكو اليابانية وخلص إلى كتابة القصيدة على طريقة المدرسة الحديثة بل بلغ بها منزلة رفيعة على طريقته لغة ورمزاً ومضموناً. فالقصيدة لدى حاج حمد عباس هزيمة وانتصار صراع ورؤى وافكار شد وجذب أخذ وعطاء حوار وانتماء لمدن بعيدة وغريبة.. فشعره بحر ونهر وفي كلماته رائحة الحضارة النوبية في عبارة جزلة ولغة رفيعة لأنه كان صاحب فكرة لذلك ليس بمستغرب أن تصير القصيدة بدءا منه تصير لها دلالات ومعان عميقة ونسق ابداعي وجمالي يستصحب فيه تجاربه الحياتية والانسانية. كان يتصالح مع مدينته ويهرب منها احياناً الى مدن بعيدة ويغازلها لكنها كانت ملهمته فيقول: أبت ان تراني.. عيوني المدينة تهت.. إلى أين أمشي عيناي عالقتان بحلم سري في الضباب نوافذه على البحر مغلقة وأشواقه تمر على الريح خلف التلال سراب سراب أبكي وجرحي يئن كثيراً وراء جدار من البرد كل الجسور تودعني مرتين وباب خباب ترد سنين إلى الموت بين القرابين طاحونة الإغتراب وقد اتضح من خلال كتابات الشاعر حاج حمد الغربة الداخلية التي كان يعيشها ويحياها ولكنه كان في كل الازمات قادرا على هزيمتها والانطلاق نحو آفاق جديدة برؤية فلسفية للحياة تتمثل في اشعاره التي انتجها من علاقته مع الناس والمدينة والكون فقد كان لشعره دموع تبكي حال الانسانية ورغم ذلك كان يسير المشوار الطويل الرائع للنفس البشرية ومن خلال قناعاته الفكرية ورؤياه الشعرية فانه كان يبحث عن جمال الشعر والانسان والتراب والوطن وبرغم العذاب والقلق الفكري والتوتر والانجذاب ومحاولة الانطلاق متخطياً البؤس والاختناق مأخوذاً بتفاصيل الاشياء مصطحباً الاطفال والمنازل والبحر ومشاوير الحياة اليومية فنقرأ في اشعاره ظلال الحروف في الابيات التالية التي كتبها في يوم من أيام حياته الحافلة بالتفاصيل: الوجه وجهي والنعل نعلي والسدرة الأولى ورجعة الخريف من زرائب الأنساب وكلما تجذرت مداركي اسقطني من طلعتي شهاب جلست منهكاً على ارائك الدنيا ألعن ردتي - أحيى طقوس أقلب الكتاب ودحية الكلبي جاء يسأل النبي مرة ثانية ما الساعة هل بدأ أشراطها وانحسر الحجاب فقد كانت هنالك اسئلة كبرى معذبة للشاعر حاج حمد تمسك به أحياناً كثيرة إلا انه يفلت منتصراً برغم الموت الحسي ينهض بتجربة جديدة فكرة شعرية رائعة تتمدد في دواخله في انسياب ودوزنة يناقش فيها تجارب الحياة نشوة الحب والانتصار ومن خلال الكلمات يوضح جوهر الفكرة ورؤيته الانسانية المستقبلية وانه صاحب مدرسة خاصة في الشعر الحديث ينطلق فيها من تمتعه بثقافة واسعة وغوصه في داخل النفس البشرية وسبر أغوارها ومعرفتها بطبيعة الاشياء فالقصيدة لديه تنضح بالوعي في دلالات واشارات في استناده على الارث الانساني تاريخاً وحضارة لذلك كان لامعاً متوهجاً عليه الرحمة أخي وأستاذي وصديقي الشاعر حاج حمد عباس في ذكرى رحيله الثامن المر وأقول قوله الجميل: وأنا بين حدودي لم أعد أستنهض الأحلام صيفاً أو شتاء