أخيراً... وأخيراً جداً انتبه الاتحاد الأوروبي ذو ال«27» دولة إلى الخطر المتنامي، الذي أصبح يشكله تحالف «اليمين» الإسرائيلي على سلام واستقرار الشرق الأوسط ومصالحه، بعد عقود متطاولة من التجاهل، برغم كل ما تعرفه أوربا عن اليهودية.. الصهيونية التي نشأت وربت واستوت على سوقها في ديارها، وأقلقت مجتمعاتها وكانت ضمن خمائر العكننة وعناصر التفجير التي أشعلت الحروب العالمية، والتي دفع فيها اليهود ثمناً غالياً من دمائهم وأوراحهم جراء أطماعهم وجشعهم الذي عايشه الأوروبيون وخبروه قبل غيرهم، وهم يحفظون عن ظهر قلب قصة «تاجر البندقية». فتخلصت أوربا من تزاحم اليهود في ديارها بدفعهم إلى فلسطين بهجرات كبيرة ومتوالية، بعد أن وعدهم وزير خارجية بريطانيا «بلفور» عام 1917م بإقامة «وطن قومي» لليهود في تلك الأرض المقدسة، فكانت عنصرية وكراهية النازي ل«السامية» هي بالضبط ما تحتاجه الصهيونية لإنجاز حلمها في «أرض الميعاد». وبالأمس - وبعد طول تردد - وجهت دول الاتحاد الأوروبي «مجتمعة» صفعة ولطمة قوية وموجعة لتحالف اليمين الإسرائيلي - خد إسرائيل الأيمن - جراء التصلب والصلف الذي أبداه هذا اليمين، بعد صعود بنجامين نتينياهو إلى الإمساك بدفة الحكم في الدولة العبرية، وإطلاق «قطعان المستوطنين» ليعيثوا فساداً في «قدس الأقداس» وكل ما جاورها في الضفة الغربيةالمحتلة، التي يدعونها ب «يهودا والسامرة» التزاماً بدعاوي الأيدولوجية الصهيونية القائلة بأن فلسطين من النهر إلى البحر هي «أرض إسرائيل». ففي اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي «الثلاثاء» في بروكسل دعا الاتحاد إسرائيل إلى اقتسام القدس مع الفلسطينيين في إطار اتفاقية سلام. وقال البيان «الرسمي» الصادر عن الاجتماع: «إن السلام الحقيقي يحتاج إلى حل لوضع القدس عاصمة لدولتين من خلال التفاوض»، وأكثر من ذلك أوضح البيان «إن الاتحاد الأوروبي لن يعترف بأي تغييرات على الحدود السابقة لحرب 1967م، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، غير تلك التي تتفق عليها الأطراف»، وتلك إشارة تفهمها إسرائيل وحكامها جيداً، وتعني تحديداً وبكلمات أخرى عدم اعتراف أوربا بالقرارات التشريعية والتنفيذية التي أعلنت مراراً من داخل الكنيست، وعلى ألسنة قادة إسرائيل جميعهم تقريباً والتي تجعل من القدس «عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل».وأشار الوزراء الأوروبيون إلى أن الاتحاد «لم يعترف أبداً» بضم القدسالشرقية، وحثوا إسرائيل مجدداً على«وقف البناء في المستوطنات وإنهاء المعاملة التمييزية ضد الفلسطينيين في القدسالشرقية». وحتى هذا «القرار- الصفعة» كان قد جرى تخفيفه نتيجة للمناورات والضغوط الإسرائيلية، فمشروع القرار الأصلي الذي تقدم به وزير خارجية السويد الذي تترأس بلاده دورة الاتحاد، كان يقول: «إن القدسالشرقية يجب أن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية»، ولكن نتيجة لتهديد إسرائيل بأن «هذا الموقف سيؤثر على إمكانية مشاركة أوربا في مفاوضات السلام عند استئنافها»، فإن بلداناً مثل ألمانيا - البلد الأوروبي الأكثر شعوراً بتأنيب الضمير تجاه مآسي اليهود والمحرقة النازية - بذلت جهوداً مضاعفة من أجل الوصول إلى الصيغة الأخيرة التي تبناها البيان، وعبرت ألمانيا عن سعادتها لذلك على لسان وزير خارجيتها غيدو فيسترفيلة الذي قال: «لا يمكننا أن نفرض نهاية المفاوضات من خلال فرض الشكل الذي ستكون عليه أراضي الدولة الفلسطينية في المستقبل.. ونحن كألمانيا قلنا هذا غير ممكن»، وهذا يتفق مع العلاقة الخاصة بين ألمانيا وإسرائيل. تماماً، كما هو متوقع استدعى القرار رد فعل إسرائيلي غاضب وفوري.. فالمتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية إيغال بلمور عبر عن أسفه «لاعتماد الاتحاد الأوروبي هذا النص»، وقال: «إن البيان لا يساهم في إحلال السلام» ويتجاهل ما اعتبره «رفضاً من الفلسطينيين للمفاوضات»، في إشارة لموقف السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، الذي يعتبر وقف الاستيطان والالتزام بشروط «الرباعية الدولية» التي تمثل الاتحاد الأوروبي إلى جانب روسيا والأمم المتحدة أحد أضلاعها، شرطاً لازماً لاستئناف المفاوضات. أما السلطة فقد رحبت من جانبها على لسان رئيس حكومة تصريف الأعمال سلام فياض بالبيان الأوروبي، واعتبره «يوماً جيداً للقانون الدولي والشرعية الدولية والعدالة»، ويعطي «الشعب الفلسطيني الإحساس بالأمل بشأن المستقبل». بينما اعتبرته حماس وفقاً للقيادي سامي أبو زهرة «دون المستوى ولا يلبي طموحات الشعب الفلسطيني»، موضحاً «أن حماس ترحب بأي خطوة داعمة للحق الفلسطيني وتقبل بإقامة دولة على حدود عام 1967م، دون الاعتراف بشرعية الكيان الإسرائيلي على أي جزء من الأرض الفلسطينيةالمحتلة». أما حركة «الجهاد» فقد جارت «حماس» بل زاودت عليها بقول أحد زعمائها، الشيخ نافد عزام: «إنه حتى لو صادق الاتحاد الأوروبي على (مسودة السويد) فإن ذلك غير كافٍ، ولو أغضب إسرائيل، لأن القدس (كاملة) هي للفلسطينين». ومع أن حلم الفصيلين الفلسطينيين - حماس والجهاد - يبدو حلماً مشروعاً، إلاّ أنه بمعايير الراهن الدولي وموازين القوى التي لابد ستنعكس على موائد المفاوضات يبدو حلماً «طوباوباً» لا واقعياً، سواء لجهة الاعتراف «بحقيقة» وجود إسرائيل الطرف المقابل في المفاوضات، أو لجهة تخليص كامل أرض فلسطين من أيدي اليهود. حلم أقل واقعية من مشروع.. «الدولة الديمقراطية» التي يعيش في كنفها العرب واليهود والمسلمون والمسيحيون أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات، ذلك لأن الفصيلين المذكورين تحكمهما أيديولوجية إسلاموية تسعى لإقامة «دولة دينية» - لا مدنية - في فلسطين. المهم أن إسرائيل تلقت صفعة عاصفة وغير مسبوقة من قبل مجموعة الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيشد من أزر إدارة الرئيس الأمريكي أوباما التي طالبت بوقف بناء المستوطنات وتبشر كذلك بإقامة الدولتين، وهي المطالبة التي تراجعت عنها في الشهور القليلة الماضية جراء الضغوط والألاعيب الإسرائيلية. أما روسيا فهي تقف بشكل أكثر ثباتاً مع الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وتحتفل موسكو هذه الأيام بمناسبة «القدس عاصمة الثقافة العربية ل 2009م»، بحضور وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، الذي من المقرر أن يعقد اليوم مؤتمراً صحافياً بمقر وكالة «نوفوستي» الروسية الرسمية، ولابد أن قرار الاتحاد الأوروبي سيكون الموضوع الأول والأهم في ذلك المؤتمر. وإذا كانت الصفعة الأوروبية قد وقعت هذه المرة على «الخد الأيمن» لدولة إسرائيل - أو تحالف اليمين الصيهوني - ألا يكون ذلك بمثابة مقدمة لسقوط هذا التحالف الذي فاز بصعوبة بالغة على «كاديماً» قوى اليسار الأقل تطرفاً، لتدير إسرائيل «خدها الأيسر» لتتفادى صفعة أخرى أشد إيلاماً وأقل إضراراً بمصالح شعبها ودولتها، وهل سنشهد في الأسابيع أو الشهور القادمة توجه الناخب الإسرائيلي مجدداً إلى صناديق الاقتراع لاختيار حكومة جديدة بعد هذه الورطة.. إنه احتمال وارد، وليتذكر القراء عدد المرات التي ذهبت فيها إسرائيل إلى انتخابات مبكرة نتيجة الإخفاقات والخيبات والمغامرات الرعناء.