- في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، انعقدت بضاحية كارن بالقرب من العاصمة الكينية نيروبي، مفاوضات للبحث عن السلام بين الوفد الحكومي ومتمردي الجيش الشعبي (حينذاك).. اختارت الحكومة الكينية مركزاً لتدريب الصيارفة مقراً للمفاوضات التي لم تعمر إلا بضع أيام وانفض سامر لقاء العلاقات العامة.. الذي شهد لقاءات خاصة وتبادل الذكريات خاصة ما بين الرجل د. سامسون كواجي من الحركة، واقنست لوكودو من الوفد الحكومي، وأعضاء وفد جبال النوبة الذي يتألف من الراحل حمد عبدالكريم السيد، ومكي علي بلايل، والمطران بيتر البرش، ومحمد هارون كافي الذي نقض عهده مع قرنق والتحق بسلام الخرطوم من الداخل، وعند وصول د. رياك مشار الذي كان رئيساً لوفد الحكومة الاستشاري، ومعه د. رياك قاي صاح في وجه هؤلاء نيال دينق قائلاً: «الخائنين للمباديء والبائعين الخنادق بالفنادق»، وكادت تفسد هتافات نيال دينق ما غزلته الدبلوماسية الكينية في الجمع بين النقيضين. - في فضاء المفاوضات وجه الراحل يوسف كوة مكي الدعوة لأبناء جبال النوبة من الوفد الحكومي، وتمت دعوتي ضمناً كصحافي تجمعنا جبال النوبة الجغرافيا والدم الذي يعتبره بعض المتطرفين من النوبة دماً مراقاً مهدراً، لا قيمة له، ولكنه دم يسري في الشرايين، وسحنات تتبدى في ملامح الوجه والأطراف، ويوسف كوة من الرجال القلائل بيوتهم مفتوحة رغم ظروف الحرب واللجوء وقسوة الحياة في نيروبي.. استقبلتنا زوجته «فاطمة» وهي امرأة شهمة.. أخذت تحتضن الوفد بإلفة ومودة وصفاء قلب. - ويحدثنا الراحل يوسف كوة عن معاركه مع الراحل الفاتح بشارة وصداقته مع أبو القاسم يعقوب وليالي كردفان، وقصته مع جهاز الأمن وكيف نزعت منه السيارة الحكومية في سوق الأبيض، وطرد أولاده من البيت الحكومي بعد حل مجلس الشعب الإقليمي، ورغبته في العودة للتدريس لكن جهاز أمن نميري حال دون تعيينه في مدرسة كمبوني بالأبيض.. وتتمدد الذكريات الشجية.. لكن أحد حراس يوسف كوة من ذوي البشرة البيضاء كان يسعى لأن يحول بيننا و(أخونا) في الجبال يوسف كوة، حتى اضطر حمد عبدالكريم السيد لزجره (يا زول إنت عاوز منا شنو نحن نوبة نتحدث لبعضنا من أين أتيت أنت؟)، والشخص المزجور كان هو وليد حامد القيادي الحالي في قطاع الشمال، وأحد صقور الحركة الشعبية الذي ذرف الدموع الأسبوع الماضي لأيام مضت وذكريات كادت تطويها الأحداث ومشروعه السياسي أخذ في الذبول مع هبوب رياح شتاء هذا العام. - دموع وليد حامد عزيزة علينا وهو الفتى المدلل، وابن يوسف كوة الذي خصه به الراحل قرنق.. لكن قرنق مات وسبقه يوسف كوة وتبدد حلم مشروع السودان الجديد، وانكفأ الجنوب على نفسه يواسي جراحه ولم يبقَ لوليد حامد غير أن يغني مع شاعر بربر إبراهيم الفراش: